أخطاء
في فهم المنهج
بقلم محمد
بن عبد الله الدويش
______________________
يكثر اليوم الحديث عن المنهج وطرح التساؤلات
وإثارة النقاش حوله ، ويكثر
استخدام
هذا المصطلح في الخطاب الدعوي ، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية .
والحديث عن المنهج مظهر من مظاهر النضج في التفكير
وتجاوز الوقوف
عند
المسائل الفرعية وتكرارها والجدل فيها على حساب الأصول .
لكن .. ما طبيعة هذا الحديث ؟ .
أهو حشد للطاقات والجهود داخل إطار الطائفة
الناجية لاستكشاف معالم المنهج ، وتحديد الثوابت
الدعوية في مثل هذا العصر وظروفه ؟ أم أن الجهود
اتجهت للتشاجر والتطاحن داخل الصف الإسلامي بل داخل صف أهل السنة ؟ !
وما أسطره هنا لا يعدو كونه اجتهاداً فرديًّا
، ومحاولة شخصية ، آمل من
القارئ
الكريم ألا يؤدي به اختلافه معي في قضية أو جزئية إلى رفض ما يوافقني
عليه
، وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد ، إلا المعصوم .
المنهج
في اللغة :
قال ابن فارس : (النون والهاء والجيم أصلان
متباينان : الأول : النهج ، الطريق .. ونهج
الأمر : أوضحه .
والآخر : الانقطاع .. وأتانا فلان ينهج ، إذا
أتى مبهوراً مقطوع النّفَس) [1] .
حين نعود إلى لسان العرب نستطيع أن نستنبط من
معاني المنهج ومشتقاته :
1- الوضوح : (طريق نهج : بيّن واضح ، وهو النهج
.
والمنهاج : الطريق الواضح . واستنهج الطريق
: صار نَهْجاً .
2- سلوك الطريق : نهجت الطريق : سلكته ، والنهج
: الطريق المستقيم .
3- الانقطاع : وهو ليس من هذا الباب ، بل من
الأصل الثاني . [2]
المنهج
في الكتاب والسنة :
ورد المنهج في القرآن في قوله (تعالى) : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً
[المائدة
: 48] . وفي السنة النبوية : جاء استخدام هذا المصطلح في حديث : (تكون
النبوة
فيكم ما شاء الله أن تكون ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [3] .
أخطاء
في المنهج :
أولاً
: اعتبار أقوال الرجال مقياساً للمنهج :
مما لاجدال فيه ، ولا يحتاج لاستدلال : أن لأقوال
أهل العلم قيمة ومكانة ،
ولا
أدل على ذلك من أنك لا تقرأ لأحد من المعتبرين في مسألة من المسائل إلا
وتراه
يثني على اختياره قولاً من الأقوال ، في الإشارة إلى من قال بهذا القول من
أهل
العلم . لكن هذا شيء ، واعتبار أقوالهم وآرائهم حجة شرعية ومصدراً للتلقي
شيء
آخر .
وفي ميدان التقرير النظري : فلن تجد أحداً من
أهل السنة يعتقد العصمة
لرجل
من الرجال ، أو يرى أن قوله حجة ملزمة للأمة كلها ، لكنك حين تنتقل إلى
ميدان
العمل والتطبيق : فسترى الكثير ممن يتحدث عن قضايا كبرى تتعلق بالمنهج
ينطلق
من رأي فلان وفلان من الناس ، ويظهر أثر ذلك في جوانب عدة ، منها :
1- استفتاء بعض المهتمين أهل العلم في كل ما
يجدّ ويحدث ، واعتماد هذه
الفتوى
أو الرأي حجة دون اعتبار الدليل الشرعي .
2- في مجال تقويم الأعمال الدعوية والجهود والبرامج
، أو تقويم بعض
الدعاة
: قد يُكتفى بسؤال فلان أو فلان من الناس ، واعتبار رأيه حجة قاطعة .
3- الحكم بالانحراف عن المنهج على فرد أو داعية
؛ بحجة أنه خالف ما
قرره
العالم الفلاني أو الجماعة الفلانية ، أو الهيئة العلمية الفلانية .
ومع تأكيدنا لقيمة أقوال أهل العلم وضرورة استفتائهم
، إلا أن هذا شيء ،
واعتبار
أقوال بعضهم حجة على الأمة شيء آخر .
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (والمقصود أن
من نصب إماماً فأوجب طاعته
مطلقاً
، اعتقاداً أو حالاً ، فقد ضل في ذلك ، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية ...
وكذلك
: من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا
استثناء
... وكذلك : من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم فيما قاله وأمر به ونهى
عنه
مطلقاً ، كالأئمة الأربعة ، وكذلك : من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة في
كل ما
يأمرون به وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء) [4] .
ومن يقرأ في كتب أهل العلم السابقين واللاحقين
فسيجدهم قد تواصوا بالعيب
على
التقليد والنعي على أصحابه وذمهم .
وقد يعتذر بعضهم بأنه يسوغ له التقليد ، وأن
غيره يدرك ما لا يدرك ، وأنه
لم يصل
إلى مرتبة معرفة الأدلة ومناقشتها ، فقد يسوغ له التقليد في ذات نفسه ،
لكن
.. لم يجعل ذلك معياراً يحكم به على الآخرين ، فيضللهم أو يخرجهم عن دائرة
المنهج
محتجًّا بأقوال الرجال ؟ ، وحين يناقش بالدليل الشرعي يقول : إنه ليس
صاحب
علم ، وفرضه أن يقلد .
ثانياً
: اعتبار واقع المجمتع معياراً للمنهج :
تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها
أو بعدها عن الهدي الشرعي ، ومدى سلامتها
من البدع والمحدثات ، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة
وأقل
ابتداعاً من غيره ، فيشعر أهله بالتوجس والريبة مما يفد إليهم من سائر
المجتمعات
، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة .
لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي
وافد على هذا المجتمع فذلك
دليل
انحرافه ، فيرفض هؤلاء الكثير مما لم يألفوه بحجة أنه وافد ، أو لم يكن
يعرف
من قبل ، ولو قالوا :
إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم
مُّقْتَدُونَ
لكانوا
أكثر واقعية مع أنفسهم .
نعم ، قد يكون هذا الوافد مخالفاً فينبغي أن
يرفض ؛ لأنه مخالف للشرع لا
لأنه
وافد ، وقد يكون موافقاً للشرع ، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين أو طبقة
معينة
من الناس مهما علا قدرهم ليس مبرراً لرفضه .
ثالثاً
: الخلط في المصطلحات الشرعية :
هناك مصطلحات شرعية رتب الشرع عليها المدح
والذم ، والوجوب والتحريم
وبعضها
مصطلحات عامة تحتاج للفقه في تنزيلها على الوقائع والمواقف ، وقد يُتكأ
على
مثل هذه المصطلحات ، وينطلق منها ، ويستثمر أثرها على الناس في تقرير
ما يريده
باسم المنهج ، ومن ذلك :
1- المصلحة : فالمصالح والمفاسد مصطلح شرعي
يكثر الحديث عنه في
كتب
الأصول والمقاصد ، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتبار أن الدين كله قائم
على
مراعاة المصالح والمفاسد ، لكن بعض الدعاة قد يقف مواقف ويعمل أعمالاً
دعوية
تخالف المنهج الشرعي ، وحين يطالَب بالحجة والبرهان لا يجد لنفسه مستنداً
إلا
أن المصلحة تقتضي هذا الأمر ، وينسى هؤلاء أن المصلحة وصف شرعي لا
بد من
تنزيله على مناطه الشرعي فعلاً ، وليست لباساً يُلبسه من شاء على ما راق
له من
عمل .
وأحياناً قد يوصف الواجب الشرعي كإنكار المنكر
بأنه يترتب عليه مفاسد ،
وينسى
هؤلاء أن المفاسد المعتبرة هي ما اعتبرها الشرع . إن الأصل الشرعي
المستقر
: أنه يجب إنكار المنكر ، إلا إذا ترتب على إنكاره مفسدة ؛ فالقاعدة
والأصل
: وجوب الإنكار ، وترتب المفسدة استثناء ، فتحول الاستثناء عند بعض
هؤلاء
إلى قاعدة .
2- الفتنة : والفتنة جاءت نصوص الشرع بذمها
وعيب أهلها والداعين إليها
والساعين
لإثارتها ، لكن قد ينطلق اليوم بعض الذين يسعون لتشويه سير الدعاة إلى
الله
(عز وجل) والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، من هذا المعنى المستقر
وهذا
الرفض لدى جمهور المسلمين للفتن ؛ ينطلقون من ذلك ليحَوِّلوا جهد هؤلاء
وإبلائهم
إلى جرم وضلال ، وفي ظل هذا الزخم الهائل من التهم بإثارة الفتنة للدعاة
إلى
الله (عز وجل) نسي كثير من المسلمين أو جهلوا المعاني الشرعية للفتنة .
فالصد عن سبيل الله ، والكفر به ، والمسجد الحرام
: جرم عظيم ، لا يوازيه
القتال
في الشهر الحرام ؛
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ
[البقرة : 217] . وإيذاء المؤمنين لصدهم عن دينهم فتنة ؛
إنَّ الَذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الحَرِيقِ
[البروج : 10] . والكفر والشرك
بالله فتنة تستوجب الجهاد والقتال
وإراقة
الدماء لإزالتها ؛
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
[البقرة : 193] .
3- البدعة : وهي مصطلح أطلق في الشرع على كل
ما أحدث في دين الله ،
واقترن
هذا المصطلح بالذم في نصوص الكتاب والسنة ، بل كان لا يدع التحذير
منه
في خطبة أو مناسبة ( ... وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة) ، والخطأ هنا
يقع
في تنزيل هذا الوصف الشرعي على عمل معين أو شخص معين ، فبعض أهل
البدع
يقصر هذا الوصف على نوع واحد من البدع ، وهي البدع الحقيقية ، ويخرج
البدع
الإضافية من وصف البدعة . وبعض آخر يغلو فيحكم بالابتداع على من لا
يستحقه
، ويصف بذلك كل من أخطأ في مسألة ولو كانت من المسائل الخفية ، بل
وربما
كانت من مسائل الاجتهاد .
رابعاً
: الانطلاق من ردود الفعل :
تترك الأحداث آثارها وتهز النفوس هزًّا قد يفقدها
بعض التوازن ، فتتجه إلى
طرف
آخر ، ومن هنا : تساهم ردود الفعل في صرف بعض الناس عن موقف
الاعتدال
:
أ- فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص
فعالجه آخر بتطرف
مقابل
، ولعل إهمال شأن الحكم بغير ما أنزل الله وتهميش قضية الحاكمية ردة فعل
تجاه
طائفة اختزلت مشكلات المسلمين كلها في هذه المشكلة .
ب- وقد تكون ردة الفعل مدرسة في مقابل مدرسة
أخرى ، فمدرسة أهل
الظاهر
ما هي إلا ردة فعل لمدرسة أهل الرأي التي تطرفت في الأخذ بالقياس
وإهمال
النص .
ج- وقد تكون من الإنسان نفسه تجاه خطأ اكتشفه
في نفسه ، أو تقصير في
جانب
من الجوانب ، فيتحول إلى الطرف المقابل ، ويعالج الأمر بالتطرف بعيداً
عن الاعتدال
والموضوعية .
د- وقد تكون تجاه حدث أو أزمة مرت بالأمة وتركت
آثارها وخلّفت ظلالها
الثقيلة
على النفوس ، (إن الناموس العام لردود الأفعال هو عدم الاتزان وعدم
الموضوعية
، وإن الكسالى والعاجزين والفوضويين سيظلون باستمرار على هامش
الفعل
، وفي بؤرة ردود الأفعال تتقاذفهم الأمواج العاتية) [5] .
خامساً
: اعتبار النتائج القريبة مقياساً لفشل ونجاح المنهج :
لا شك أن كل عامل يتطلع إلى نجاح عمله ، وإلى
تحقيق أهدافه ومقاصده ، والدعاة إلى الله
(عز وجل) شأنهم شأن سائر العاملين يسعون لتحقيق أهدافهم ، من :
نشر
الخير في المجتمعات ، وكف الفساد والشر عنها ، وقد يفشل بعض الدعاة في
تحقيق
الأهداف التي يتطلعون إليها .
والفشل تحكمه عوامل عدة ، منها : خطأ المنهج
، لكن قد يكون ناشئاً عن
تقصير
في الأخذ بالأسباب ، أو الذنوب والتقصير في الطاعة ، أو عدم تمام صفاء
النية
، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك ، لكنه في الجملة سليم المنهج ، فلا
يسوغ
أن نرفض طريقته ونحكم بفشلها ؛ فالفشل هنا له هو لا للمنهج ، لقد هزم
المسلمون
في غزوة أحد ، وفروا يوم حنين ، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي
المسلمين
، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي بالخلل في منهجهم إذ ذاك ؟
إذن
: يجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب التي يتم علاجها بتصفية
النفوس
وتزكيتها و الخلل في المنهج ، الذي يعني المراجعة له .
وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لرفعة درجة
أولياء الله ؛ فقد أخبر الله عن أهل
الكتاب
أنهم يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَذِينَ يَاًمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
[آل
عمران : 21] و أثنى على أصحاب الأخدود الذين حرّقوا جميعاً في النار في
مجزرة
جماعية ، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسؤول عنها ، ولم تكن تلك الدماء ثمناً
لتهوره
. وحين جاء النبي بدعوته وجهر بها أوذي نفر من المسلمين ، بل منهم من
قتل
، وأُخرجوا من ديارهم ، أكانت دعوته هي المسؤولة عن هذا الذي أصابهم ؟ !
أم أن
ذلك كان يعني خللاً في المنهج ؟ ! (معاذ الله) .
إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية
بحجة أنها فشلت في
تحقيق
أهدافهما ، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج ، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له
. أما
إذا عتبرنا النتائج بمقياس آخر غير قياس اللحظة الحاضرة ، فسنرى أن
الكثير
من الجهود الدعوية التي يصمها بعضهم بالفشل قد حققت النجاح ، ولو لم
يكن
في ذلك إلا القيام بالواجب الشرعي .
سادساً
: الخلط في تحرير منهج السلف :
لقد كان من منجزات الدعوة السلفية المعاصرة
أن اتفق الرأي العام الإسلامي
على
قبول منهج السلف في الجملة ، وصار من دلائل ذلك : أن أحداً لا يمكن أن
يجرؤ
على التصريح بأنه يرفض منهج السلف ، وصار الوصف بالخروج عن منهج
السلف
تهمة لدى الجميع ، يسعى إلى نفيها ولو كان متصفاً بها في الحقيقة .
وهي قضية إيجابية مهمة ، لكن كثر الحديث الآن
عن منهج السلف ووصف
عمل
من الأعمال بأنه على منهج السلف ووصف آخر بأنه على خلاف منهج السلف ، ولا شك أن السعي لتوضيح منهج السلف ، والسير عليه
، ودعوة الناس إليه :
قضية
لا مجال للمناقشة فيها ، بل النقاش فيها أمارة على الانحراف والزلل .
ولكن : هل كل ما ادعي أنه منهج السلف هو منهج
السلف فعلاً ؟ وهل يحق
لكل
مدعٍ أن يتهم فلاناً من الناس بأنه على خلاف منهج السلف ؟
إن هناك أخطاءً ترتكب في تحديد منهج السلف ،
ومنها على سبيل المثال :
1- إهمال اعتبار تغير الزمان والمكان :
هناك أمور مستقرة لا تتغير بتغير الزمان والمكان
، وهناك أمور تختلف
باختلافهما
، فقد يقول أحد السلف قولاً ينطبق على عصره ووقته ، لكنه لو عاش
إلى
عصرنا لربما تغير اجتهاده .
إن اعتبار العصر وظروفه لا يعني بحال نسف آراء
السلف وأقوالهم ، لكن
البعد
الزماني المطلق ليس إلا لنصوص الوحي ، بل حتى أقوالهم المرتبطة بزمن
معين
أو مكان معين يجب أن نستفيد منها ونُعنى بها ، مراعين اختلاف الزمان
والمكان
.
2- تعميم اجتهادات آحاد السلف :
قد يقرر أحد رأياً في مسألة من المسائل ، ويثني
على تقريره بسرد بعض
أقوال
من قال بذلك من السلف ؛ لينطلق من ذلك إلى أن هذا هو منهج السلف ، وقد
يجاريه
القارئ في هذه النتيجة لعدم استحضاره لسائر الأقوال والنصوص ، ويغيب
عن القارئ
أن الكاتب قد تعمد اختيار الأقوال التي توافق ما يذهب إليه ، وتجاوَزَ ما
تعارضه
، والأمانة العلمية تقتضي بلا شك نقل جميع النصوص ، أو بالأصح عدم
الاقتصار
على جانب واحد منها .
فلا بد من التفريق بين منهج السلف وآراء آحاد
السلف .
3- دعوى اعتبار روح ما عليه السلف :
وهو منهج يسلكه أولئك المتميعون الذين يسيرون
وفق ما يحلو لهم ، وحين
يناقَشون
في ذلك ويطالَبون بسلوك منهج السلف : يحتجون بأن المقصود : اتباع
روح
ما عليه السلف ، فالأقوال والآراء المبتدعة ، والمناهج المنحرفة ، والتسيب
الفقهي
والعلمي عند هؤلاء : لا يمكن أن يترتب عليه مجاوزة منهج السلف ، ما دمنا
متمسكين
بروح ما عليه السلف ! .
إذن : فقضية اتباع منهج السلف قضية يجب أن تصبح
من البدهيات لدى
العاملين
للإسلام ، لكن الحكم بأن هذا منهج السلف ، وأن ذاك خلاف منهج السلف
يجب
أن يصدر بموضوعية وعلم ، وألا تطلق الأحكام جزافاً .
سابعاً
: النظر إلى جانب واحد من النصوص :
إن من العدل في التعامل مع النصوص الشرعية أن
ينظر الباحث فيها إليها
جملة
، وأن يجمع النصوص الواردة في الباب الواحد ، وحين ينظر إلى جانب
واحد
منها فقط فسيخرج بنتيجة غير شرعية .
ففي مقابل النصوص التي تتوعد أهل الكبائر بالعقوبة
والنكال : هناك
نصوص
تفتح أمامهم باب الرجاء ، وفي مقابل النصوص التي تأمر بطاعة الولاة
والصبر
على جورهم : هناك نصوص تأمر بقول كلمة الحق والصدع بها في
وجوههم
، ولو أسخطتهم .
ثامناً
: اعتبار المسائل الاجتهادية من المنهج :
هناك مسائل مما يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف
، ولا ينبغي أن تكون مجالاً
وميداناً
للإنكار والتهارج ، فضلاً عن التأثيم والتضليل ، لكنك تجد بعض الدعاة
حين
يتبنى اجتهاداً في مسألة ينطلق من هذا الاجتهاد ليلزم الأمة به ، ويقرر أن هذا
مما
لا يسوغ خلافه ، وأن المخالفة فيه دليل على انحراف في المنهج .
ألسنا نرى أن بعضهم يتبنى اجتهاداً في مسألة
من مسائل الوسائل الدعوية
التي
اختلف فيها أهـل العلم في هذا العصر فيتبنى رأياً من هذه الآراء ، ويحشد
أقوال
مؤيديه ، ويطوي صفحاً عن الآراء الأخرى في المسألة ، وهو يعلم أنها
تخالف
رأيه ، وهي لعلماء يحترمهم ، فيصور للقارئ أن هذه المسألة من المعلوم من
الدين
بالضرورة ، ومن ثم : فأولئك الذين يخالفونه في اجتهاده منحرفون في منهجهم ، بعيدون عما عليه السلف ، فاقدون للورع والديانة
... ! !
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (وأيضاً : فقد
ثبت بالكتاب والسنة والإجماع :
أن من
الخطأ في الدين : ما لا يكفّر مخالفه ، بل ولا يفسّق ، بل ولا يأثّم ، مثل
الخطأ
في الفروع العملية) [6] .
تاسعاً
: الخلط بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط :
هناك فرق في المسائل الخلافية قد لا يتفطن له
بعض المختلفين ، والغالب في
الخلاف
الدائر اليوم بين أهل السنة هو من هذا الباب ، ألا وهو : الخلاف في
الأصل
أو في تحقيق المناط .
فقد يتفق الجميع على أنه لا يكفر مسلم بكبيرة
من الكبائر ، ولا يكفر إلا بما
سماه
الشرع كفراً ، فيجتهد أحدهم ويحكم بالكفر على معين لما ظهر له من خلال
عمل
موجب للكفر عند أهل السنة ، فإن ذلك لا يجوز للآخر اتهامه بأنه يرى رأي
الخوارج
وينتحله .
بل هذا هو الشأن في الخلاف بين الأمة في سائر
مسائل الفروع ، فهم يتفقون
على
اتباع الدليل وسنة النبي في كل مسألة ، صغرت أم كبرت ، لكن الخلاف قد
ينشأ
بينهم في تحديد ما هو مقتضى الدليل وسنة النبي ، فلا يسوغ لمن أوصله
اجتهاده
أن هذا الأمر سنة أن يصم من خالفه بأنه غير حريص على تطبيق السنة ،
إذ المدار
هنا : هل هذا الأمر سنة أم لا ؟
________________________
(1)
معجم مقاييس اللغة ، ج5 ص361 .
(2)
لسان العرب ، م6 ص4554 .
(3)
رواه أحمد ، ج4 ص27 .
(4)
الفتاوى ، ج19 ص69 70 .
(5)
فصول في التفكير الموضوعي ، لعبد الكريم بكار ، ص270 .
(6)
الفتاوى ، ج12 ص494 .
No comments:
Post a Comment