Thursday, March 20, 2014

لعبة الكتابة مقال للراحل عبد الرزاق جبران

هذا  مجتزأ من بحث طويل تناول فيه الناقد والشاعر المغربي. الكبير  المرحوم عبد الرزاق جبران مسالة الكتابة بأغتبارها لعبة ومغامرة ,  وكتب عن السرد فى
 المغرب متناولا تجربة سردية لروائي شاب  ومشهور الآن, فى اطار بحثه  غن نقد جديد يتجاوز الايدولوجيا  وينتبه الى دلالة الشكل وسلطة القارىء
 ،( والتي تهتم بمفهوم الكتابة ككينونة خلاقة تعيد بناء العالم ، في علاقات مستحدثة ، يستحيل على غير التفكيك والتأويل التسرب الى اغماقها الدفينة





1- لعبة الكتابة:
 
 قليلا ما ننتبه إلى خطورة فعل الكتابة، في بداياتنا الحالمة والموهمة. نسعى نحو مصيدتها دون وعي . اندفاعنا لا حدود له . ما نفكره في لحظة استلابها لذواتنا ، هو جمالية عالمها السحري . نتقدم نحوها مسلوبي الإرادة.ليست هناك قدرة على المقاومة . عندما نلج أحراشها ينتابنا إحساس كاذب بالسعادة. نقرع الحروف كما تقرع الأجراس، ونصنع بيوتا لغوية نستكين إليها، نستريح في فيافيها من تعب العالم، لكن ونحن نجوب مدنها وغاباتها، نكتشف المتاهة ، نحس بالخدعة ، نحاول التراجع ، فلا نملك قوة الفعل . سقطنا ، أولا و أخيرا ، في المصيدة ، والتفت خيوطها الذهبية حول أجسادنا . شلت قدرتنا على التفكير ، وحول وعينا إلى مرايا متعددة الأضلاع.لكي نقاوم سجننا اللغوي ،نقبل اللعبة. نمارس اللعب وفق الآليات التي تقدمها لنا. في هذا النوع من اللعب ، التذاذ ، وأيضا انكسار ، وانفصال . وفيه أيضا اتصال و تلاحم. التذاذ ، لأننا نجعل ذواتنا أكثر استعابا للكلام ،قادرة على طي العالم في أشكال كتابية ، تتخذ من الغرابة صورا مركبة للسخرية والتفكيك أيضا . وانكسار لأن اللعبة أكبر مما نعتقده . فيها تنشرخ الذات نصفين ، واحد يمارس الحياة في ماديتها مذعنا لسلطتها ، قد يغضب ، لكن غضبه لاقيمة له ، فالحياة – في حقيقتها - ليست سوى سلطة سالبة لوجودنا. أما النصف الثاني، فهو التفكيك ذاته لهذه الحياة . تفكيك يستمد كينونته من الكتابة. وهنا يطرح سِؤال له أهميته ، أية كتابة هذه ، التي تستطيع تفكيك و خلخلة بنية الحياة ؟ هل هي كتابة النظام المؤسساتي التي تسجن القدرات الإبداعية في قمقم القوانين التاريخية واللسانية ؟ أم هي كتابة العمق المتحرر و المتمرد على القيود، والتي يسميها ، ثءثالناقد المغربي محمد برادة ،" كتابة الفوضى" ؟ إن ملابسات الواقع الذي نعيشه اليوم، تدعو إلي إعادة النظر ، والتأمل الابستيمولوجي في كل مكونات حياتنا التي تشابكت وتداخلت ، لدرجة لم نعد قادرين على فهم فوضاها . وفي هذا المستوى أصبح هذا النوع من الكتابة هو " الفوضى الوحيدة الممكنة وسط السديم الذي صعقتنا حقيقته ومشاهده العنيفة المتتالية .."(2). فكتابة الفوضى تمارس قراءة العلائق ، المتحكمة في وجودنا المتوهم ، محاولة إيجاد معنى لكل مايربك إدراكنا لهذا الوجود . بل أكثر من ذلك، تسعى إلى تأويل التفاصيل التي تزيف علاقتنا بالمجتمع و السلطة. "فالكتابة وهي تمارس فوضاها من منظور مضاد لنظام التكريس والتعليل والأمثلة ، تكون خطوات نخطوها استشرافا للغات وأشكال وحقائق يراد لها التغييب والوأد والتهميش ، تكون كتابة الفوضى بهذا المعنى جزءا من الفعل المغير ، وتحافظ على خصوصيتها وفاعليتها بقدر ما تحافظ على المبادأة النقدية والتمرد على التدجين .. التمرد على القائم والظاهر ، والتمرد على المرئي المتراص .."(3) . بهذا المعنى نفهم التفكيك و نمارسه. 
في هذه العملية تكون اللعبة أكثر تعقيدا ، وفيها تتحقق المتعة الحقة . ونحن في مصيدة الكتابة ، نتمرس على الرؤية بالقلب و العقل . العين لا أهمية لها ، قيمتها بصرية ، سطحية ، غير نفاذة . أما عدسة القلب فقارئة ومشرحة ، تتسلل إلى المكامن القصوى للمعنى ، تنبش عمق الدوال الشعرية وتفجر التآويل الخفية ، من أجل بناء كينونة صادقة ، وبذلك تمهد الطريق للعقل المركب ، الذي ينظم سلطة التأويل ، ويعطيها مشروعيتها العلمية . 
في هذا المستوى من اللعبة ، تتحول المصيدة إلى فضاء للمغامرة والانتشاء ، تتماهى مع الذات ، فتصبح الذات والكتابة شيئا واحدا، وهما معا، يصبحان صوتا بلاغيا للحياة ، وهنا السحر المولد للرؤى المحتملة . وهنا ، أيضا ، يتحقق مفهوم الاتصال و التلاحم ، مع الكتابة كعلامة والواقع كمرجع . 

عندما حاول صاحبا " نظرية الأدب " ، التنظير للكتابة الأدبية ، وجدا أنفسهما مرغمين على استكناه سر الكتابة ، والجمع بين الأهداف و المتعة ، هكذا نفهم كلامهما : " يجب على الأدب ، دائما أن يكون ممتعا ، يجب عليه دائما ، أن يمتلك بنية وهدفا جماليا وتلاحما ومفعولا ، يتوجب على الأدب ، طبعا ، أن يكون على صلة ، معترف بها ، مع الحياة ، وان كانت الصلات شديدة التنوع . يمكن السمو بالحياة أو الاستهزاء بها أو مناقضتها. فالأدب في كل الحالات انتقاء من الحياة ، ذو طبيعة نوعية هادفة . وعلينا أن نحوز معرفة مستقلة عن الأدب لكي نعرف ما يمكن أن تكون عليه صلة عمل معين ب"الحياة". "(4) . 

كل أجناس الكتابة لها صلة بالحياة ، لكن في هذه الأجناس نجد، أيضا اختلافات في الصلة . وربما كانت الأنواع السردية أكثر ارتباطا بها ، فهي ليست قارئة للحياة فقط ، بل وخالقة لها . 
 
إن الكتابة السردية ، تعتمد في رؤيتها للحياة إبدالات لغوية عميقة ، فهي منظمة ومفككة ، مركبة ومقومة ، هي ليست واصفة ، إنها بانية للعوالم الملتبسة وغير الملتبسة . هكذا يكون السرد سيد المتعة ، سيد العوالم المفتوحة أمام الذوات المتعلقة به . انه الوسيلة الممكنة للرحيل ، من الذات إلى الذات ، من الحياة إلى الحياة ، ليست هناك حواجز ولا حدود ، فقط ، هناك شعرية اللغة ، وحصافة العقل ، وفعل الديمومة الخلاق . 


2- هاجس القصة القصيرة : 


في الدرس السردي الحديث ، يتم التمييز بين القص الخالص والقص التطبيقي . معتبرا القصة ، قصا خالصا ، والرواية ، قصا تطبيقيا . ويحدد الفرق بينهما ، في اتساع فضاء السرد . فالأول يكثف اللحظة و يوحد الشخصية والحدث أيضا . أما الثاني فيتخذ الاسترسال وسيلة ، حيث تبئير اللحظة ، وتوسيعها إلى لحظات ، وتشذ ير الشخصية و الحدث . من هنا اعتبرت القصة ، أكثر قدرة على التقاط لحظات الحياة الدقيقة جدا .لكن ، في ظل هذه الفوضى ، التي يعرفها عالمنا العربي المعاصر ، كيف تلتقط القصة مآسينا ؟ وهل يكفي توصيف حياة القهر ، كي تصدق وظيفة القص؟ 


حاولت القصة المغربية ، منذ السبعينات ، تشكيل وقائع الحياة وفق منظورات سردية قادرة على احتواء سياقات تخضع للنظام واللانظام في نفس الآن . وهذا ما اصطلح عليه بكتابة التجريب حينها ، وربما كان ذلك من حسنات القصة في تلك الفترة . فالمبدعون حاولوا تجاوز هفوات البدايات الستينية ، وربطوا العملية الإبداعية بالتحولات الجذرية التي فرضها الواقع العربي عامة ، والمغربي خاصة . مما دفعهم إلى خلق أشكال قصصية مختلفة بناء و مضمونا . أشكالا لا تعترف بسلطة الإطار ، ولا بالتبعية . لقد غدت " تجربة القصة القصيرة بالمغرب مرآة لأنماط التجريب واستنبات عناصر سردية انتمت إلى أنواع أدبية أخرى مثل المسرح والشعر والفن السينمائي وبنية الأسلوب الكاريكاتوري والبلاغة اليومية وأشكال الحكي التراثي .. وغيرها " (5) وبذلك أصبحت للقصة رغبة في إعادة قراءة الحياة من عمق الذات ، لا من خارجها. متحملة فوضاها ، وتركيبيتها . لقد " فرضت القصة نفسها خارج حدود الجنس الأدبي، المستمد لمعاييره من سجل النقد الغربي . غدت القصة ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا من صراع وحيرة وتمزق وتعدد في الرؤية والطموح إلى احتضان الجوهري من الأشياء.. لم يعد الواقع بمفهومه التبسيطي، الاستنساخي هو ما يثير اهتمام القصاصين المجددين ، وإنما أصبح الواقع يعني ، أيضا ، المحسوس والمتخيل والمتذكر ، يعني : الوقح والمألوف والمتطرف من الأحداث والمواقف ، ويعني : الذات الموزعة والمشتتة والظروف المادية القاسية ، كما يعني احتمال تصوير الأمور على غير ما تسير عليه وبافتراضات لا محدودة . " (6). 


فالقصة المغربية ، بهذا الإجراء الجرئ ، وفي أتون مغامرة الكتابة ، المتداخلة المسالك ، والمحفوفة بالمخاطر ، وبحكم وعيها الجديد ، الذي فرضته مآزق الحداثة ، نجحت في إحداث " قطيعة ابستمولوجية تم بموجبها استبدال الواقع بالمتخيل ، والتاريخ أو التكون بالبنية ، والإبداع أو الإنتاج بالكتابة ، والشفافية بالكثافة ... "(7) هكذا انتقلت من القراءة المباشرة للأحداث ، إلى التفكيك ، وإعادة البناء ، يؤطرها في ذلك المتخيل الذي يتخذ الانزياح أسلوبا . وبذلك غدت مدخلا " للتمرد على سجن خطابات السلطة وبلاغاتها ... معبرا إلى إعادة تشييد فضاء رحب يستعيد المخيلة الموءودة، ويحتفل بنكهة اللغة الطازجة وطراوة المعرفة الكاشفة .. أن نقص ، معناه أن نلملم أطراف المشتت ، والمتلعثم ، و المتآكل ، و المنقسم ، و الوقح ، والملتصق بالجلد والذاكرة ، لنعيد نسجه وتوليف عناصره واستثماره وفق ما يجعل النفس ترتج بحقيقتها وبحقيقة مجتمعها .. " ( . 


إن هذا الفهم المتطور للكتابة القصصية ، رفع عملية التجريب إلى الذروة ، وجعل المغامرين الجدد ، الذين ظهروا في الثمانينيات و التسعينيات ، والذين يمتد أثرهم للآن ، رفقة الجيل الجديد ، يحفرون أبعادا ملغومة ، أبدلت فعل التواصل الأحادي الجانب ، بالتواصل المتعدد لأن " النص القصصي ( لم يعد ) (9) نصا تواصليا بالمعنى المألوف، انه على الأصح يولد إمكانيات متعددة للتواصل أثناء القراءة، بفعل علاقاته الداخلية وطاقته الكبرى في مجال التدليل وبحكم أنه يعيش في الماضي والحاضر والمستقبل محافظا في ذات الوقت دائما على طاقته التدليلية فانه يكون معرضا على الدوام لتعددية القراءات."(10) ، أي أن النص ، ولج دائرة الوعي بقوة حضور المعرفة الابستيمية ، التي لا تكتفي بالتوصيف ، بل تسعى إلى صياغة الأسئلة المحمومة والمفجرة للصمت والحلم ، في نفس الوقت . من هنا نستطيع أن نؤكد ، مع ادوار الخراط بأن " القصة القصيرة ( ...) صياغة للسعي نحو المعرفة ، ونحو التواصل في هذه المعرفة : تشكيل لإدراك مشترك وكامن لأهوال الحياة والموت ومتعاتها : بنية متعينة لأسئلة وأشواق ، إجابتها في السؤال نفسه ، وتحققها في التوق نفسه ، أي أنها صياغة للسعي نحو المستحيل بكل ما هو في طوع الإمكان ، بل بما يتجاوز الإمكان بشرط التعريف (...) ففيها ، ادن ، مسحة من عمل النبوءة بالمعنى الأشمل ، أي بمعنى الرؤيا ، والعرفان ... " (11) . 


إن هذا التحول الذي عرفته القصة القصيرة ، انعكس على مستوى التلقي ، وفرض قراءة من نوع خاص ، قراءة تهدم وتبني ، تعيد صياغة الذوات ، وفق منظورات فلسفية لا تنطلي عليها الخدعة الرمزية . وبما أن " القصة القصيرة بالذات شكل مخادع ومراوغ جدا " (12) فهذا يدفع بالمتلقي إلى التسلح بأنواع معرفية خصيبة ، لها إمكانية التحاور مع السابق واللاحق ، من أجل إنتاج معرفة نصية موازية للسرد القصصي .

 
يتضح من كل هذا ، أن المتلقي في القصة ، أصبح له دور آخر ، غير ذاك الذي كان له في الماضي . فهو الآن ، لا يتجه نحو نهاية القصة بدافع الملل ، باحثا عن النتيجة أو الحل ، مهملا المراحل السردية ، كما يحدث في الغالب مع الرواية . فقد أصبح يعي أن القصة تخلق حميمية خاصة معه . فكل بنية تكوينية فيها ، لها وظيفتها وأثرها . ولعل هذا هوا لسر في نجاح تلقيها . 
 
طبعا ، نتحدث هنا عن القصة التي تملك " قصصيتها " ، أقصد أدبيتها المتماسكة ، وهذا يتطلب من المتلقي الانتباه والحذر في ربط علاقته بها، تماما، كما يتطلب من الذي " يقص قصة أن يعتني بما يحدث ، وليس بالنتيجة فقط."(13) . فالعملية ، بهذا المعنى مركبة ، وتحتاج إلى رقيب سردي ، مفترض أو فعلي ، يعتني بفعل الكتابة ، باعتباره نسقا وسياقا . وهذا يستوجب منا ، كمتلقين أن لا نبحث عن الماصدق في القصة، ف " كل شئ في القصة صحيح ماخلا القصة كلها " (14) ، لذا علينا أن نلتذ ببلاغتها ، ونستوعب رسالتها و ندرك حكيها ، وهذا هو الأهم ، وماعداه ، مجرد كلام عن الكلام . 


3-الداخل إلى البحيرة : 


أ-التقديم طريق أبيض: 


العنوان المرتبط بالبحيرة ، جزء من سؤال احتفائي، بالقاص: مصطفى لغتيري ، ورد في سياق كلمة تقديمية لأحد رواد القصة المغربية، وأقصد بالضبط " المعلم " أحمد بوزفور . والمعروف في الأوساط المغربية ، أن هذا القاص ، بابتسامته الفلسفية الساخرة ، كان دائما يمد يد الإبداع ، لكل من يرغب بالتورط في عالم الكتابة . 


تحاشى أحمد بوزفور في تقديمه المقتضب للمجموعة وظيفة التوجيه ، التي تقوم بها المقدمة عادة ، متناسيا ، في نفس الوقت ، ريادته للقصة المغربية ، التي تخول له سلطته الأبوية ، لو شاء ذلك . يفتتح، تقديمه ل" هواجس امرأة " (15) بالجملة التالية : " هواجس امرأة ، بحيرة قصصية تحتفي بالجدل " (16) والملفت أنه وسم المجموعة ب " البحيرة " لينفث فيها بعدا رمزيا . فما يميز البحيرة ، هو العمق الذي يخفي في أحشائه كنوزا غير متاحة إلا للغواص المتمكن والمجرب ، ثم إن العمق يستلزم الوعي بالمخاطر المحتملة ، والتي قد تؤدي إلى نتائج غير منتظرة. والقصة القصيرة هي هذا العمق الذي يربك كل حسابات المتلقي الحاذق . أما الجدل المشار إليه فحدده في بنية الصراع التي يولدها السرد،إلا أن الذي يجب أن نفهمه هو جدل الأفكار والرؤى والتصورات، إنه" جدل روحي إذا صح التعبير: توتر في العلاقة الإنسانية لا ينتهي إلى مركب جديد يطور الجدل بقدر ما يدور حول نفسه ليحافظ على نار الجدل مشتعلة."(17) وهذا يفيد أن البناء السردي في المجموعة يرتكز على فعل الحركة الخلاق ، الذي ينطلق من الذات ، الراغبة في تأسيس ، لا فضاءها المتخيل فحسب ، بل عوالمها المعرفية والجمالية أيضا . وواضح أنه اعتبر بنية الصراع المخصبة لنصوص المجموعة ، النواة الداخلية التي تسم العوالم المتخيلة ، والتي يسعى القاص إلى نحتها على غير مثال . كما أشار إلى بنية المتلفظ السردي الذي يرتكز – في نظره- على الجملة الطويلة : " وجمل الأستاذ مصطفى لغتيري طويلة كأعناق الزرافات ، تتمدد كل جملة منها بالنعوت والأحوال والظروف وأدوات الشرط والربط ، وتتحرك على أرض القصة كما يتحرك المحراث " (1. ومن المؤكد أن المحراث ، يرتبط في الثقافة الميثولوجية بالذكورة ، ويفترض أرضا بكرا ، لم توطأ ، تحتاج إلى " فحولة " لغوية خاصة . ولعل هذا ما جعل المعلم الداهية يطرح السؤال : " هل ذلك لأنها تزرع معنى لم ينبت بعد ؟ " 


إن الأسئلة التي يتم تفجيرها في التقديم ، لا تعلن احتفاءها بالمتورط الجديد ، فحسب ، بل تنبه المتلقي إلى الفخاخ المبتوتة في ثنايا " القص " ، خاصة وأن الإشارة إلى الجمع بين القدامة والحداثة الأسلوبيين ، تنبئ على أننا أمام قاص يحترم التاريخ السردي ، ويرغب في تجاوزه من خلل الإضافة إليه . وأيضا ينسل مقنعا باتفاق ضمني ، بينه وبين المحتفي الذي خط بدهائه طريقا أبيضا نحو القصة القصيرة ، خال من النتوءات والمفاجآت الخطيرة . 


وربما كانت هذه المجموعة ، من بين السرود القصصية القليلة ، التي تجمع بين سلطة الحكي ومحاولات التجريب ، وإن لم تكن مستغرقة بالشكل الكافي . وكأن الهاجس الحقيقي لدى القاص هو : كيف يبني قصة مغربية لها هوية سردية متماسكة ، ومستقلة . ولعل وعيه الحاد بكون القصة ليست ترفا ، وإنما هي حفر في الذات والعالم ، ومحاولة لاستقراء الواقع بكل حيثياته ، لا من أجل طرح بديل ، ولكن من أجل بناء السؤال المفكك للظواهر ، هو الذي فتح أمامه مسارب سردية ، اتخذت من الجملة الطويلة قنطرة للوصول إلى المتلفظ الوصفي ، و أ يضا إلى استغلال الامكانيات البلاغية ، لكن بأسلبة هاجسها التخييل . 


المجموعة، ككل، تعتمد تكسير أفق الانتظار الذي يوهم به السارد المتلقي . فما من قصة في المجموعة تسلم نفسها لسلطة التلقي التي يرسمها المتلقي بذكائه الخاص .إنها وهي تراهن على التواصل ، ترهنه بالتكسير والتجريب . ففي القصة الأولى مثلا (19) ، المرأة لا تستطيع إقناع الزوج ، بوجهة نظرها في محاولة الإنجاب مرة أخرى ، لتكسير رتابة الذكورة . وفي الوقت الذي يعتقد فيه المتلقي ، منذ بداية القصة ، أن اتفاقا ما قد يحصل بينهما ، تكون النهاية مخالفة لتوقعه . كذاك في قصة " أبدا لن أعود " (20)، فالروح التي انعتقت من سجن الجسد ، ترق لطفلتها فتحاول العودة إلى سجنها ، إرضاء لعاطفة الأبوة ، غير أنها تخيب ظن المتلقي ، فتصر على الحرية ، كمعطى تم تحقيقه بعد معاناة . إن عملية التكسير هاته ، جعلت السرد القصصي يؤسس لبلاغة التقابل . فلا شئ في الحكي يأخذ بعدا واحدا ووحيدا . فهناك ، دائما، نوع من الحوار الفلسفي اللذيذ بين القيم المتصارعة ، والتيمات التي تساهم في تماسك البناء ، وتعطي لبعد الكتابة سحره المرآوي ، الذي لا يكتفي بالإنعكاس ، وإنما يرقى إلى مستوى التذويت ك " آلية أساسية ( ...) تقدم الأشياء والعوالم وكل المادة القصصية من خلال تصور الذات.."(21).