Saturday, December 1, 2012

التحدي الصارم- مجمع اليرموك والحرب بالوكالة

التحدي الصارم (دوووس هنا )هو اسم لعلمية عسكرية أمريكية اسرائلية مشتركة بدأتها إسرائيل في الرابع والعشرين من أكتوبر ا لماضى ., وهذه العملية كانت تهدف بشكل رئيس إلى نشر نظام صاروخي أمريكي للدفاع عن إسرائيل, ووفقا للصحافة الأمريكية فقد شارك ثلاتة آلاف وخمس مئة من كبار الجنود والفنيين والقادة تواجدوا في إسرائيل في نفس الفترة التي تم فيها الهجوم على مجمع اليرموك بالخرطوم

والسؤال المطروح في هذه الحالة هو هل شاركت الولايات المتحدة في الهجوم على مجمع اليرموك ؟ هل هناك اى أفق يمكن من خلاله تحقيق اى اختراق في ملف العلاقة بين الإنقاذ والولايات المتحدة الأمريكية؟

شخصيا اعتقد أن مساهمة الولايات المتحدة تمثلت في تجديد العقوبات على السودان , وفى غض النظر بشكل عام عن مسالة الهجوم , لرغبتها في عدم الانشغال بملف السودان باعتبار تراجع أهميته بعد انتهاء هوجة النفط السريعة وانفصال الجنوب ,ولكون السودان ليس أصيلا في صراعات الشرق الأوسط , ولاستعداد ساستنا الفطري في الاستجابة وبأريحية لمطلوبات الأمريكان طوال الوقت

عموما يمكن ملاحظة إن الصحافة الأمريكية عموما تعاملت طوال الوقت مع قضية مصنع اليرموك باعتباره قضية إيرانية وليست سودانية

السيد( جوناثان شانزر )في مقاله الأخير على النيوربيليكا (هنا)قال ( لاخلافات حقيقية بين أمريكا وإسرائيل كما هو معلن بخصوص التدخل في إيران) والغريب أن يأتي هذا في سياق حديثه عن الغارة على مجمع اليرموك!

السيد جوناثان رجل المخابرات ألأمريكية السابق. لا اعتقد انه سابق جدا , فهو نائب الرئيس للأبحاث في معهد الدفاع عن الديمقراطيات, ووفقا لصحيفة النيوربليك هو خبير في شئون الإرهاب لوزارة الخزانة الأمريكية! المهم انه كشف في مقاله الاخير أن تلك وغيرها معلومات مستقاة من :-ألمعارضة السودانية !

ب/ومن مصادر اسرائلية كانت تشير وتؤكد منذ 1989 أن السودان كان دائما مركزا للنشاط الايرانى ,وان مسالة قيام إسرائيل بعمليات ضد إيران في السودان كان مفكرا بها منذ 1995 وذلك ردا على عمليات التفجير التي تمت ضد الكيان الصهيوني في الأرجنتين 1994

ترى من هي المعارضة السودانية التي قدمت لإسرائيل معلومات بهذه الأهمية؟ وماهو مستوى التغلغل الاسرائيلى فى المجتمع السوداني والذى يمكنهم من الوصول الى معلومات حول مستوى التغلغل والنفوذ الايراني فى ذات المجتمع

المؤسف فى رؤية امريكية مهمة مثل هذه هو أن ترى السودان مستبعد تماما , وبحجمه الحقيقي في لعبة الأمم هذه , مجرد تابع مستخدم , تدور الحروب على أرضه بالوكالة والمواطن المتضرر ليس بإمكانه أن يلجأ حتى للقضاء !

قبل أن تغرق معي في الحزن سيكون بإمكانك أن ترى هذا الكاتب مبسوطا وهو يشير إلى أن إسرائيل حين تجاوزت مخاوفها القديمة بخصوص العمليات الخارجية هاجمت السودان! ... ويمضى ليسرد تاريخ الهزيمة السودانية أمام الهجمات التي نفذتها إسرائيل في السودان ضد إيران !

ا/استهداف الأسلحة الإيرانية الموجهة لحماس في قطاع غزة. دمرت واحدة من تلك الهجمات قافلة من 17شاحنة بالقرب من الحدود المصرية

ب/ هجمتا 2011واستهدفت اخراهما سيارة تقل رجلين بالقرب من بورت سودان. وما ذكرته تقارير لرويترز عن "مصادر الاستخبارات الخارجية أن إسرائيل شنت غارة بطائرة من غير طيار على قافلة في جنوب الخرطوم في سبتمبر دمرت فيها ( 200) طن من الذخائر
موما ليس مستغربا أبدا أن تتسرب بعض المعلومات الإستراتيجية حول صناعة الأسلحة وجهود تطوير السلاح في مجتمع مفتوح مثل المجتمع السوداني , فالهمسات حول مصانع السلاح الرابضة تحت الأرض, كانت تتحول إلى حقائق ثابتة , كل الأشياء تصبح حقيقية عندما تذكر في التلفاز , ربما كان على الإنقاذ أن لا تقول شيئا عن مسالة حماية الدبابات الصينية من الضربة الذرية وتوجيهها بالليزر باعتبارها جهودا سودانية؟ ثم من سينسى تصريحات وزير الدفاع الحالي عن السودان باعتباره الثالث في افريقيا من حيث تصنيع السلاح

أين ذهبت هذه الأسلحة؟من الذي كان يشترى هذه الأسلحة ؟ هل كانت مبيعات السلاح السوداني تؤثر على ميزان المدفوعات بشكل ايجابي في اى مرحلة من المراحل؟

في مقاله يقول جوناثان شانزر (في وقت مبكر من عام 1998، عبرت هيومن رايتس ووتش أيضا عن قلقها لأن اليرموك يساهم فى تخزين الأسلحة الكيميائية للعراق) !

والحمد لله ان السودان لم يضرب وقتها بواسطة قوات التحالف الدولي. ناهيك عن تسريبات في الخارجية الأمريكية لسنة 2006 عن قدرة المصنع على تقديم مساهمة مادية لصواريخ وأسلحة الدمار الشامل وغيرها من برامج الأسلحة الأخرى

وفقا للصحافة الامريكية يبدو أن ثمة رسائل هنا ترغب إسرائيل والولايات المتحدة في يعثها للعالم اهمها :-ا

ان إسرائيل لن تكون بحاجة لإذن من الولايات المتحدة لشن هجوم على إيران أو اى جهة احرى , وان أنشطة الحرس الثوري الايرانى في السودان مرصودة

أن إسرائيل ليست قادرة على ضرب إيران فقط بل هي عازمة بدليل قدرتها على ضرب السودان الذي يخوض هذه الحرب بالوكالة كما قلنا وبدليل تصريحات نافذين في المخابرات ,والتماثل المشار اليه هنا متعلق بالمسافة التى يتعين على الطائرات الاسرائلية قطعها

الأمريكان علقوا على الغارة الاسرائلية على السودان باعتبارها لمحة تعبر عما قد يحدث حقا في يونيو القادم!! ضد المنشئات النووية الإيرانية

الصحافة الأمريكية لم تنس أن إسرائيل ستحتاج إلى طائرات تساوى في العدد 20 ضعفا للطائرات التي هاجمت السودان لتفعل المثل في إيران, وان وجود منشئات الأسلحة النووية في إيران في عمق منطقة الجبال يجعل مهمتها أصعب بكثير من مهمة مصنع اليرموك في قلب الإحياء السكنية بالخرطوم

عموما كشفت ازمة الهجوم على مجمع اليرموك الكثير حول طبيعة الصراعات القائمة داخل الانقاذ, آخر تجليات هذا الصراع هو مسرحية قوش والاصلاحيين , وهو مرتبط بشكل من الاشكال بهذه القضية , لكن  الاهم منها فى تقديرى هو انه وفى سياق الحروب بالوكالة كانت الانقاذ حاضرة فى غزة, وانتقمت حماس لتحقق بعض ماتم تربيطه فىى الخرطوم و وعود خالد مشعل التى بذلها للسودانيين فى مؤتمر الحركة الاسلامية الاخير (من اننا سننتقم لكم من اسرائيل)
ير ان احداث غزة ايضا فى تقديرى تخبر عن فشل عملية التحدى الصارم, وفشل مشروع الدرع الصاروخى الامريكى وربما يمثل هذا احد اسباب اعلان ايهود باراك رغبته فى اعتزال الحياة السياسية مؤخرا

 

 

Tuesday, November 6, 2012

مقالات فى نقد تجربة التدين الكتابى المنحرف 1-3

مقدمة

بدأت هذه السلسة من المقالات فى اطار من الحوار الذى كنت اظنه سيكون متمدنا وحضاريا مع المسيحيين العرب , والمقيم اغلبهم فى المهجر الاوربى الامريكى . لكن سؤ ادبهم , واعتدائهم وتطاولهم على الاسلام ورموزه بما هو اسوأ بكثير مما يظهر بين حين وحين فى الاعلام , ولن يكون آخره ذلك الفيلم السخيف لخنازير المهجر.

كل ذلك هو مادفعنا للبحث الجاد فى منطلقاتهم كمحالفين, لنخوض معهم معركة مستمرة على عدة جبهات, لكن جبهة موقع الحوار المتمدن تبقى هى الاهم, فالموقع يضم اكبر رؤس الكفر والاساءة للاسلام على مستوى العالم فى وقتنا الحالي, وهى إساءات تمارس بشكل يومى فى هذا الموقع الذى يتيح حرية مطلقة للتعبيرأشهد انها لا تتوفر فى غيره

الحوار بيننا وبينهم حرب سجال, يعرضون شبهنا ونتعرض الى شبههم, حاولوا استغلال فكرة ان المسلم لن يجروء على شتم المسيح كما يشتمون هم رسولنا, على اساس اننا لانفرق بين احد من رسله, لكنهم فوجئوا بان فريقنا يتحدث عن يسوع وليس المسيح وبشكل خال من القداسة تماما, وهو شخص مختلف عن المسيح الذى حدثنا عنه القرآن! ويعتقدون انه احد آلهتهم الثلاثة!

نقاشاتنا معهم انتهت الى طريق مسدود, لكن فرجة من الامل بعثها فى قلبى كلمة لا اعرف كيف فلتت من احد اساطينهم , ففى حوار على موقع كاتبهم المرتد (-------) وهو اردني الجنسية , فاجئتهم بنص من انجيل يوحنا اثبت به ان هناك خلط كبير ببن شخصية المسيح عيسى بن مريم, وشخصية يسوع الذى لم يكن ابنا لسيدة اسمها مريم اصلا, والذى يتصل نسبه بداؤود عن طريق الرجال وفقا للاناجيل ما يدل على ان امه لم تكن عذراء اضافة الى ان اسم مريم هو اسم خالته وليس اسم امه

اما م هذه الحقائق المذهلة حتي لي شخصيا لم يجد احد كبراءهم الا يقول لي ( لقد افحمتنا) !

كلمة واحدة فقط ! ووضع لى معها رابطا لحلقة نقاش بين شاب سوداني يناظر المرتد المغربي الشهير المدعو بالاخ رشيد فى قناة الحياة ! ولا اعرف لماذا؟

بعد فترة طويلة جاء رد من احد المسيحين يحاول تبيين الفرق بين مجموعة( مريمات) من كتابهم, وقال كلاما لا يمكن ان يقنع طفلا !

لست ضد المسيحين, لكنى ضد المسيحية الصليبية والتى تمثل فى تقديرى وجه العملة الآخر لتيارالتطرف الاسلامى , كلاهما مدرسة تسوق الغيبوية الى عالمنا, تؤسس للكراهية والتطرف وسيادة العنف فى مجتمعاتنا, كليهما يدعي امتلاك الحقيقة , معاد للانسان

لست داعية ايضا , فالدعوة عمل يتحاوز قدراتي , وتحتاج الى قلب يمتلىء بحب الناس, وفى مثل هذه المعارك لايبقى فى قلبك حب . ولكن عداء واستقطاب

و التجربة كانت مفيدة , فقد انتجت مجموعة من المقالات التى تعرضنا فيها للنزعات المادية فى مجمل تجربة التدين المسيحى, العلاقة بالسياسة باعتبارها اصل المشكلة فى انطلاق الفكر الصليبى الذى هو ابن شرعى لتجربة الفكر المسيائى النكوصى الارجائى المنحرف التى انتجها عقل مهزوم يعكس معاناة تجربة يهود مابعد السبى البابلى قبل لميلاد

المقالات بدأت بمقال عادى خال من روح البحث يطرح تساولات عامة عن الاناجيل, وعن كونها ليست منزلة وانما مكتوبة بواسطة مجهولين ( منشور), ظهرت بعد المسيح بفتره, ثم مقال عن تجربة المسيح فى الدعوة وعلاقتها بالسياسة( القادم) ,ثم مقال يتناول الساعات الاخيره قبل القبض على يسوع, ثم مواقف تلاميذه بعد القبض عليه, مشككين فى دوافع كثير منهم, ومشككين ايضا فى قصة خيانة يهوذا والدوافع الشخصية التى جعلت بعض التلاميذ يكيدون له(جاهز) , لننتهى الى اثبات ان يسوع الذى صلب , لم يكن هو المسيح بن مريم

ولنبدأ بسم الله

.....

ظهر الفكر أو العقيده المسيائية

(messianism)

بعد سقوط الدولة اليهودية , وماتبعه من تشتت اليهود فى فتره الاسر البابلى فى القرن السادس قبل الميلاد, هذه المحنة التى كان لها اكبر الاثر فى الكيان السياسى والفكرى الذى يجمع اليهود كان لها اكبر الاثر كذلك فى ظهور العقيدة المسيائية التى تقوم على ان الله سيبعث لهذه الامة من يجدد لها هيكلكها ويقيم الدولة ويهزم مضهدى اليهود

عموما يمكن ان نقول أن الفكر المسيائى هو وليد لفترة من فترات الانهيار الحضارى فى تاريخ الامم, وهى فترات الهزيمة التى عادة ماتنجب فكرا منخفضا او منحطا, يشبه السفوطائية مثلا التى ظهرت فى فترة هزيمة اليونان امام زحف فارس التى تراجعت فيها كل مظاهر العظمة والتفوق الاغريقى المعروف

ملاحظات على هذه الفكره:-

هى فكرة تقوم على ان هناك شعب الله المختار الذى ينبغى ان يظل ( نظيفا) فلا يختلط بغيره من الشعوب

فكرة شعب الله المختار ستنتج حتما فكرة اخرى شبيهة هى فكرة ان هناك ارض موعودة

تقوم الفكره على ان الملك الموعود من نسل النبى داؤود, وبالتالى فان النبى القادم ليخلص الشعب المختار سيكون بالضرورة ملكلا لهذا الشعب

فالمسيح سيظهر فى فتره من فترات الانهيار الحضارى لامة اليهود, فتره تميزت بقلة التدين عموما وانتشار الفكر الارجائى المنتظر , وانحراف بين عن شريعة موسى نتيحة لضياع أصول التوراة

ثم ظهر المسيح

ولكن على غير المتوقع منه لم يكن راغبا فى فى ان يكون ملكا لليهود. لم يكن راغبا فى الانضمام الى سلك الكهنوت اليهودى الذى عادة يقوده ملك الامة ونبيها

يجب ان نلاحظ هنا ان اليهود هم الامة الوحيدة التى يقودها الانبياء, (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمرنا قال فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم) البخاري (3268)

طبيعة الخيارات التى كانت امام المسيح:-

ا/ اتخاذ خيار المواجهة مع اكثر من عشرين الف كاهن 1فيقتل بتهمة اثارة الفتنه تماما كما حدث ليوحنا فى نفس الفتره التى بدأت فيها دعوة المسيح

2/ ان يقبل الدخول فى اطار السلك الكهنوتى فيصبح ملكا ماسيجعله فى مواجهة مباشره مع الدولة الرومانية التى كانت تتحسب لظهور ملك يهودى يعيد الدولة

3/ ان يقبل بالدخول فى السلك الكهنوتى فى مقابل ان يكف عن نقد اليهود, وان يتنكر لمشروعه التجديدى برمته , ويقبل يما اعتبره تحريفا للشريعة وهدما للتوراة , ويحول الصراع برمته الى صراع قومى بين الدولة الرومانية وبنى اسرائيل

يبدو ان الخيار الرئيس للمسيح كان هو خيار مواجهة الكهانة اليهودية شكلا منهجا ,( ويعتبرها انحرافا عن التوراة ماجعل اليهود يواجهونه يسؤال اساسى هو ما اذا كان يؤمن بالتوراة حقا؟) 3تخبرنا الاناجيل ان الرد كان دائما يعبر عن الاتجاه الذى اختاره المسيح فى تأكيد فكرة انه جاء اساسا ليجدد الدين على اسس ستتناقض بشكل رئيس مع اتجاه التدين الشكلى الذى كان قائما فى تلك الفتره

ما جئت لانقض الناموس, يقول المسيح(لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء.ما جئت لانقض بل لاكمّل)

متى 5-17

وفى انتقاده للمؤسسة كان يقول(ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون انتم ولا تدعون الداخلين يدخلون.)

ماكان يريده المسيح هو ان يفتح باب الايمان للجميع, ولهذا لم يتورع عن الاكل مع الخطاة ومعالجة الناس فى يوم السبت , والامتناع عن الغسل قبل الاكل , لأن الدين ليس قضية شكلية وانما هو تجاوز تلقاء ايمان عميق يخلص الروح ويفتح ابواب السماء

(ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم تنقون خارج الكاس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافا ودعارة.)

والرسالة هنا هى تجاوز كافة اشكال النفاق وتنقية الذات باتجاه التدين الحقيقى وليس التدين الذى يجعلهم مثل المقابر (تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام اموات وكل نجاسة.)23-27 متى

الرسالة التى اراداها المسيح اذا متناقضة بشكل رئيس مع الاتجاه الذى كان يقوم عليه مسار التدين الذى تقوده المؤسسة التى يمثلها كبار رجال الكهنوت اليهودى , الذين اسسوا لفكر ارجائى نكوصى يقوم على ان يبقى الوضع كما هو عليه حتى حضور المخلص , والذى سيتعين عليه تأكيد مكتسبات هذه المؤسسة فى قيادة الدنيا والدين , بينما المفاجأة التى فجرها المسيح هى رد سلطة المؤسسة الى اتجاه التدين الحقيقى تلقاء الله ومحاربة اشكال الشرك الشعائرى والسياسى السائدة عبر تجربة نقدية ستهدم كل سلطان الا سلطان الدين

من اهم مظاهر الشرك الشعائرى السائد فى تلك الفتره كانت مسالة عبادة القبور (يل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم تبنون قبور الانبياء وتزيّنون مدافن الصديقين.)

لقد كان اليهود يعتدون كثيرا بمسالة قبور الانبياء والصالحين, ويبدوا انهم مع تطاول العهد وابتعادهم عن اصل التوراة صاروا يطفون او يصلون بها او ربما عليها, وهى مسالة سيحذر منها النبى محمد صلى الله عليه وسلم ايضا عندما يبعث

اذا من الطبيعى ان ينشأ صراع بين سلطتين , سلطة المسيح الذى يريد ان يعيد السلطة من العباد فيردها الى رب العباد

وسلطة المؤسسة الكهنوتية التى تريد ان تبقى ممثلا شرعيا وحيدا عن الله فى الارض, فتغلف ابواب السماء حتى لا يمر اليها شىء الا بواسطتها

مفهوم السلطة فى عقل المسيح

لقد واجه اليهود قوة المسيح الروحية الساحقة ومنطقه القوى بقوة مضادة تكاد تساويه, فقد كان على المسيح ان يجيب على كثير من الاسئلة المحرجة التى لو تقاعس عنها لفشلت تجربته فى مهدها, فان كان المسيح مؤمنا بالتوراة حقا ولم يأت لينقضها, وانما ليبنى عليها ويجددها فأن التوراة تقول بأن من سيقوم بهذه المهمة يجب ان يكون ملكا لبنى اسرائيل

فهل انت ملك ؟ وماهو رأيك فى السلطة الرومانية الوثنية؟

قبل الاجابة على هذه الاسئلة , يعن لى سؤال آخر واعتقد انه مهم وهو هل كان المسيح يحمل مشروعا سياسيا مع رسالته الروحية؟ وهل كان تركيزه على المسألة الروحية يعبر عن تفكير رجل استراتيجيا يخطط ويتحين لاقامة مملكة يحكمها باسم الله وفقا لشروطه هو وبعيدا عن سلطة محتكرى ابواب السماء من رجال الكهنوت ؟ واهمية هذا ستنفى بالضرورة مسالة الصلب

لقد واصل الكهنة تربصهم بالوجود الثقيل للسيد المسيح الذى فضح مخططاتهم السلطوية , واصبح الصراع بينهم وبينه يتجه الى فكرة استئصال هذا الوجود عبر سلاح القتل الذى واجهوا به يوحنا المعدان

سأستدل هنا بحادثة واحدة فقط وهى حادثة تكشف مستوى حدة الاستقطاب الذى ساد الحالة العامة فى تلك المرحلة

فى لوقا (اجاب يوحنا وقال يا معلّم رأينا واحد يخرج الشياطين باسمك فمنعناه لانه ليس يتبع معنا.)

(فقال له يسوع لا تمنعوه.لان من ليس علينا فهو معنا)9-49-50

فى مرحلة لاحقة وعند توفر الطروف المناسبة سيقول المسيح قولته الشهيرة التى استعارها الرئيس بوش فى حربه على العالم وهى ان ( من ليس معنا فهو ضدنا) لكن الفكره هنا انه لاحاجة لاستعداء اى شخص طالما لم يعتدى ولم ينضم الى فريق الاعداء ضد جماعتنا , اذ يكفى فقط صراعنا مع ماتمثله مؤسسة الكهنوت , ذلك ان مفهوم الاتباع ( فى كل الاديان) ليس مسالة بهذه الحرفية التى اراداها يوحنا, لان الاتباع هو اتباع التعاليم وليس بالضرورة هو اتباع حرفى للمعلم كما يفعل التلاميذ

اعط ما لقيصر لقيصر:-

الحادثة الثانية التى تدل على اتجاه الصراع بين المسيح ومناؤيه منحا استئصاليا يتوخى التخلص منه باى بطريقة هى الحادثة التى روتها الاناجيل

يقول لوقا (فراقبوه وارسلوا جواسيس يتراءون انهم ابرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه الى حكم الوالي وسلطانه.)20-20

لقد اصبح الصراع الان يتخذ اشكالا لاتختلف كثيرا عن اساليب الانظمة الشمولية فى عالمنا, ومحاولة الاختراق الاستخبارى هذه يقوم بها جواسيس محترفون يتخفون فى صورة ابرار يبحثون عن الحقيقة

لكن لوقا لم يتوقف هنا, هاهو ذا يكشف ابعاد الموامرة بكل تفاصيلها

(فسألوه قائلين يا معلّم نعلم انك بالاستقامة تتكلم وتعلّم ولا تقبل الوجوه بل بالحق تعلّم طريق الله.)20-21

(أيجوز لنا ان نعطي جزية لقيصر ام لا.)20-22

فشعر بمكرهم وقال لهم:- لماذا تجربونني.؟

أروني دينارا.لمن الصورة والكتابة.؟

فاجابوا وقالوا :-لقيصر.

فقال لهم :-اعطوا اذا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه.

فلم يقدروا ان يمسكوه بكلمة قدام الشعب.وتعجبوا من جوابه وسكتوا

ان قراءة سريعة فى هذه الحادثة ستكشف لنا عبقرية المسيح وسرعة تخلصه من هذا الموقف المحرج الذى اراد فيه الاعداء ايقاعه فى مواجهة مباشرة مع السلطة الرومانية المحتلة , عبقرية المسيح تكمن فى انه احتفظ بموقفه المناقض للسلطة دون ان يستثير حفيظتها من خلال لغته التى يعلم اهل العلم من تلاميذه مقدار ماتحمل من مجاز , حيث يختفى المعنى دائما خلف المرئى , حيث ليس بامكان احد رؤية اللامرئى الا ان يكون قادرا على النفاذ الى ماوراء الكلمات

فالمسيح فى هذه المقولة كان يتحدث عن صورة قيصر وعن كتابة قيصر , ولم يكن يتحدث ابدا عن تقسيم السلطة العليا فى المجتمع بين قيصر والله, المسيح لم يجب هنا عن سؤال الضرائب , ولكنه تحدث بشكل عائم كأى سياسى يخرج من معضلة بشكل يجعل الجميع منتصرا فلا يستثار احد

مملكة الله:-

لقد استمر المسيح يمارس منهج المواجهة والتخفى لادراكه جيدا ان العقيدة المسيائية السائدة كانت هى التى تتحكم فى تجربة التدين المنحرف الذى انحط اليه يهود مابعد السبى

لقد اراد المسيح ان يقرر ان مسألة الملك هى مسألة ينبغى ان يقررها الواقع وطبيعة الصراع وليس الافكار المسبقة التى توارثها اليهود بعد ان اسقطوا عليها امنياتهم وعللهم النفسية والعرقية وغضبهم على العالم الذى اضهدهم

اهم الافكار التى طرحها فى هذا الصدد:-

فك الارتباط بين مفهوم الملكوت الايمانى ومفهوم الملك الدنيوى(ان ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لامة تعمل ثماره) والامثلة كثيره فى الانجيلات

وبالتالى فإذا أنفك هذين المفهومين المترابطين حد الترادف فى الفكر المسيائى والعقيدة اليهودية التى يسوس فيها الأنبياء الناس, يصبح من السهل تحطيم الفكرة الراسخة والاهم فى هذا الفكر وهى

أن ارتباط الملك الدنيوى ب آل داود هو مسالة ليست حتمية ينبغى ان يقوم عليها الدين , ولقد ورد فى الانجيل:0

(وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلا :-ماذا تظنون في المسيح.ابن من هو

.قالوا له ابن داود.

قال لهم:- فكيف يدعوه داود بالروح ربا ؟

ثم يواصل المسيح محاورته الذكية ليفجئهم بالسؤال الذى سيوقعهم فى حيرة واشكال وهو:-

فان كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه.؟(المحاورة فى متى من22- 41-46)

اى ان البنوة الجسدية لاينبغى ان تكون هى المعيار الذى تتأسس عليه السلطة العليا فى مجتمع ما, وان قضية مثل مسالة ملكوت الله لاينبغى ايضا ربطها بالسلطان السياسى لبيت دأؤود, أو أى بيت آخر فى أى زمن آخر

هذه الافكار فى تقديرى هى التى سعى المسيح لتأكيدها فى إطار الرسالة التى أراد أن يبثها ضمن تعاليمه التى كان من شأنها إستئناف دورة التدين التى اتقطعت بذهاب التوراة, وهى ذات الافكار التى ادرك أن من شأنها ان تقلب الوضع المستقر الى مايشيه ثورة كبرى ودعوة مفتوحة للفوضى

اما التخفى فسنعود الى اليه, واما الفوضى فقد رأينا جانبا منها, واما الثورة فقد تحققت

الثورة:-

يخبرنا متى والاناجيل ان المسيح دخل اورشليم على جحش , فى مشهد يشبه دخول القادة المنتصرين4, يبدو ان الدعوة كانت قد انتشرت بشكل كبير رغم التربص والمعوقات التى تحدثنا عنها, حتى ان متى قال(ولما دخل اورشليم ارتجّت المدينة كلها قائلة من هذا. فقالت الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل)

بل ان متى صور لنا الجموع الغفيره وهى تفرش الارض بثايبها امام النبى القادم هم يصرخون مرحبين (والجمع الاكثر فرشوا ثيابهم في الطريق.وآخرون قطعوا اغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق. والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا لابن داود.مبارك الآتي باسم الرب.أوصنا في الاعالي.)

فالمسيح اذن قد انتصر حتى انه( ودخل يسوع الى هيكل الله واخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام)

لقد بلغ المسيح من القوة انه صنع صوتا من حبال وطرد به من يزاولون تجارة الغنم والصيرفة فى داخل الهيكل حيث يقول لوقا(فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل.الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم.)

ربيع المسيح

سنرى ان المسيح الذى أتحدث عنه لاعلاقة له بيسوع الأنجيلات, فيسوع فى ظنى هو شخص آخر غير المسيح الحقيقى وقناعتى ان ثمة لمحات او اشياء من كليهما يمكن الامساك بها عبر دراسة دقيقة لهذه الكتب

ان احد الاسئلة التى سنحاول الاجابة عليها هى ما ان كان قد تم ابتكار هذه الشخصية المسماة يسوع لسد الثغرات العقدية التى نتجت عن حيرة او حالة من الشك العميق فى شخصية المصلوب والتى تختلف دون شك اختلافا كبيرا عن شخصية النبى عيسى المسيح عليه السلام الذى رفعه الله اليه ( سنبين ذلك)

قلنا ان المسيح قد حقق ربيعه الخاص بانتصاره على المؤسسة الكهنوتية وان دخوله الانتصارى الى اورشليم كان اشبه مايكون بانتفاضة شعبية , فقد استقبله الناس بشكل مبهر , حتى انهم قد فرشوا الارض تحت قدمية بشكل فعلي بأثوابهم و بأغصان الأشجار وبالهتافات , وانه دخل هيكل الله او المعبد واخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي الباعة

وقلت فى آخر المقال السابق (المسيح والسياسة) ان المسيح بلغ من القوة انه صنع صوتا من حبال وطرد به من يزاولون تجارة الغنم والصيرفة فى داخل الهيكل حيث يقول لوقا

(فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل.الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم.)

تخبرنا الاناجيل كيف التقت مصلحة المؤسسة الكهنوتية التى بدأ نجمها فى الغياب ومصلحة الدولة الرومانية المتحسبة اصلا لاى تمثلات قومية قد تفرزها ظاهرة الصعود السريع للسيد المسيح الذى اصبح عمليا هو الملك غير المتوج على الشعب الاسرائيلى , سيما وان تعاليمه كانت قد ركزت على فك الترابط المقيم بين مقولات الملكوت باعتباره مفهوما ايمانيا سماويا وبين مسالة الملك كمسالة ارضية متعلقة بالسياسة , وبالتالى لايجب ان تحتكر فى بيت داؤد كما كان سائدا( انظر التفصبل فى مقال المسيح والسياسة)

المؤامرة:-

فالمؤامرة كانت قد بدأت قبل القبلة ( المقدسة) التى سلم بها يهوذا ابن الانسان بكثير, غير ان المصادر تخبرنا عن شكوك عميقة تجاه شخصية هذا الرجل المدعو يهوذا, فيهوذا وفقا لانجيل متى هو احد اخوة المسيح (أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟)

اضافة الى ان هناك يهوذا آخرهو المشار اليه كخائن وهو يهوذا الاسخريوطى هى تسمية خاطئة وفقا للدكتور كمال الصليبي اذ انه ينسب الى (القرية ) وهى المكان الذى اتى منه وهو منطقة (قرية) فى بلاد عتيبة بوادى لية من بلاد الطائف بالمملكة السعودية الحاليه, وبالتالى هو( يهوذا القريوى) فى اصلها الآرامى , كان من كبار رجالات المسيح , ولكنه كان مكروها من بعض التلاميذ الذين كانوا يغارون منه لكونه امينا للصندوق ومسئولا عن الانفاق على الدعوة والتلاميذ

يمكن ان نستنتج ان يهوذا الصيرفى كان رجل اعمال ولديه معرفة جيدة بمسائل الاستثمار و كان يتمتع بحس اجتماعى معقول اذا فى الوقت الذى طالب بترشيد الانفاق وحسن تدبير المال من اجل الناس تجد ان يوحنا يتهمه بالسرقة دون اى مبرر ولا بينة, ففى حديثه عن العطر الذى دهنت به المرأة قدمى المسيح قال يهوذا(لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويعط للفقراء.)

اما تعليق يوحنا على هذا الرأى فكان(قال هذا ليس لانه كان يبالي بالفقراء بل لانه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه.)!!!

ان التفسير الذى يمكن القول به هنا ان غيرة التلاميذ من بعضهم وخلافاتهم هى التى انتجت لنا قصة الخيانة المضطربة هذه, ربما هى رغبة يوحنا وبطرس فى ان يكونا امناء للصندوق باعتبارهما كانا من اوائل التلاميذ الذين تبعوا المسيح, وهى خلافات ستمتد الى مابعد المسيح حيث تطهر معضلة الخليفة الذى سيكون مسئولا عن كنيسة أورشليم, يخبرنا التاريخ ان بطرس الذى وجد نفسه غير مستحق لوظيفة الرئاسة الكنسية لكونه ليس داودى النسب لم يكن راغبا فى ان يتولى يوحنا هذه الوظيفة بعد المسيح, وانه استدعى يعقوب بن زبدى اخو يوحنا والمعروف باسم اخ الرب,2 والذى تسلم المهمة فعلا كأول خليفة للمسيح على كنيسته, ثم اصبح هو مساعدا ليعقوب

المربك هو ان يعقوب اخو المسيح يظهر فى بعض النصوص باعتباره اخو يوحنا ايضا وهما ابني زبدي الذين طلبا ان يكونا احدهما عن يمين الرب والآخر عن يساره فى الابدية او شىء من هذا القبيل, غير ان المسيح حذرهما من لهذا ثمنه الكبير الذى قد لايكون يامكانهما تحمله

يقول متى ((ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه.)متى 27-1

المسيح اذن كان قد صدر الحكم بضرورة ان يقتل واصبحت هناك اجتماعات تعقد بشكل مخصوص للتباحث فى انجع الطرق والوسائل والتوقيتات لقتله ( هناك نص يطالب فيه احدهم بعدم قتله فى العيد), لكن المشكلة كانت هى ان المسيح الان قد اصبح قويا , ليس فقط لكثرة اتباعه, ولكن بقوة ايمانهم وشديد اتباعهم

(وإذ كانوا يطلبون ان يمسكوه خافوا من الجموع لانه كان عندهم مثل نبي/ متى21-46)

المواجهة:-

و المسيح لم يكن راغبا فى الموت كما تصور أتباعه, لعله كان يظن أنه يمكن مواجهة المؤامرة ووأدها فى المهد, بدليل أن لغة المحبة ومن ضربك فى خدك قد تحولت الآن الى :-

وفقا للوقا(ثم قال لهم حين ارسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا احذية هل اعوزكم شيء.؟

فقالوا لا. ؟

فقال لهم لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك.ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا.) الى ان يخبرنا(فقالوا يا رب هوذا هنا سيفان.فقال لهم يكفي)

هذه الحوارية تبين ان المسيح كان يستعد فعلا لمواجهة قد ينتج عنها قتال بشكل من الاشكال

تخريمة لابد منها:-

ولكن قبل ان اكمل اريد ان اقول ان السيوف المذكورة فى هذه الحوارية عادة ما تفسر باعتبارها سيوفا روحية فى المصادر المسيحية ولا أعرف ما الذى قد يجعل هذه السيوف روحية بينما الثياب التى ستباع لشرائها ليست كذلك! ولو أن الثياب التى ستباع روحية فهل معنى ذلك أن الروح يمكن ان تلبس وتعرى ؟ وكيف نفسر ان بطرس قد قطع اذن احد المهاجمين من الجند بواسطة سيف روحى, لاشك انها كانت اذن روحية كذلك؟

عوده:-

قلنا أن لغة المسيح كانت قد غادرت منطقة المجاز والاغراق فى التخفى كنهج صاحب فترة ظهوره الاول فتحولت ماجئت لاتقض الى ماجئت لالقى سلاما, و بدأ المسيح يكشف عن اهدافه الحقيقة كنبى جاء ليحقق ملكوت الله , ترى هل كا ن المسيح يعتقد ان الايمان يجب ان تكون له دولة , وسلطة تقر به وتحميه ليصبح راسخا فى الارض مايعنى انه كان صاحب مشروع سياسى ايضا ؟

ان قضية العلاقة بالسياسة التى ابتدأنا بها هذه السلسلة ستظل مصاحبة للمسيح طوال رحلته,بل انها ستتحول فى النهاية الى قضية رئيسة فى المحاكمة التى سيتعرض لها يسوع والمدخل الذى سيستدرج به المجلس اليهودى الدولة الرومانية لاكمال جريمة اول اغتيال سياسى سجله التاريخ فى العالم

خطة المسيح للدفاع:-

والمسيح لم يكن خائفا , بل انه كان على يقين وثقة من قوة تلاميذه الذين وعدوه عمليا بالاستشهاد من أجله (قال له بطرس ولو أضطررت ان اموت معك لا انكرك.هكذا قال ايضا جميع التلاميذ) متى 26-35

كما أن المسيح كان يعلم حسابات اليهود الخائفة والمتحسبة , ربما ظن أن المواجهة ستنتهى بحوار أو تسوية ما وفقا لما قدمت من معطيات فى المقال السايق

تخبرنا الاناجيل أن المسيح ذهب بتلاميذه الى مكان اسمه جثسمانى وهو بحسب التفاسير المسيحية بستان او معصرة زيت به سور, ليحدد بنفسه مكان المواجهة الآخيره بينه ويهود. لم تذكر الاناجيل ان المسيح قد اختبأ ولكنها ذكرت انه ذهب يصلى بهذا المكان اذ امر ثمانية من تلاميذه بحراسة المدخل

(حينئذ جاء معهم يسوع الى ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى امضي واصلّي هناك.)

اذن خطة الدفاع التى اعدها المسيح كانت تقوم على ان يبقى تمانية من تلاميذه عند المدخل , ثم ثلاثة آخرين معه بالداخل وهم بطرس وأبني زبدى ليشكلوا خطا ثانيا للدفاع

ثم انفصل هو عنهم بمسافة قريبة منخرطا فى الصلاة ملحا بها على الله أن يخلصه من هذه المصيبة

النص:-(ثم اخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت.امكثوا ههنا واسهروا معي. ثم تقدم قليلا وخرّ على وجهه وكان يصلّي قائلا يا ابتاه ان امكن فلتعبر عني هذه الكاس.ولكن ليس كما اريد انا بل كما تريد انت.)متى 26-35,36,37,38,39

لكن المفاجأة هى ان اليهود لم يهاجموا وحدهم, لم يكن المهاجمين مجموعة الغوغاء التى توقعها المسيح وتلامذته, لقد اقنع اليهود السلطة الرومانية آخيرا بخطورة المسيح عليهم , وهى محاولات بدأت مبكرا منذ بداية الدعوة ولكن الرومان الدهاة كانوا يعرفون طبيعة الصراع داخل المجتمع الاسرائيلى , وربما قدروا أن استمرار هذا النوع من الصراعات من مصلحتهم وبالتالى لم يكن اهتمامهم يتجاوز مسالة الضرائب والجبايات ومكافآت روما التى تمنحها ل بيلاطس وغيره من الحكام المنفيين حقيقة فى هذه المنطقة المتخلفة من العالم, المهم انه بطريقة ما اقتنع الرومان بضرورة ارسال بعض الجند مع قوات مجلس السنهدرين

بدأت الجموع باقتحام المكان الذى كان به المسيح وتلاميذه , وأعطى يهوذا علامته (ان صح هذا) فهجم الاعداء على يسوع( أعتقد أن هذا هو اول ظهور لشخصية يسوع او الشبيه الذى سيصلب وسأبين لماذا ) وبدأت حالة من القتال بين التلاميذ والجموع تخبرنا الاناجيل أن بطرس قد قطع اذن احد الاعداء بسيفه خلال ذلك وفى رواية اخرى لمتى (واذا واحد من الذين مع يسوع مدّ يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه.) -المسيح اعاد لزق الاذن لاحقا -

فقال له يسوع رد سيفك الى مكانه.لان كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون)

ادرك يسوع أن الاوضاع قد انقلبت , وانه قد فقد تفوقه نتيجة لخطأ فى تقدير الموقف او ربما نتيجة لارادة الله كما قال متى , ذلك ان متى من فرط حيرته فى ايجاد تفسير لما حدث اضطر أن يعزو الامر كله الى (فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي ان يكون) او كما قال الرجل الذى كان بأمكانه ان يحرك المدينة كلها لصالحه او حتى ان يدعو جيوشا من الملائكة لنصرته(أتظن اني لا استطيع الآن ان اطلب الى ابي فيقدم لي اكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة.)اورده متى!

ان نجاح اعداء المسيح فى القبض على يسوع يمثل فى النهاية هزيمة بالمقاييس المادية لايمكن حتى تصورها فقد قبض على المسيح فى قوة مجده وعز انتصاره وعلى مرأى من تلاميذه , يقول يوحنا:-

يوحنا 18-12 الفاندايك(ثم ان الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع واوثقوه)

وفى الترجمة اليسوعية(فقبضت الكتيبة والقائد وحرس اليهود على يسوع وأوثقوه)

كيف حدثت هذه الهزيمة؟هل اختفى المسيح حقا؟كيف ومن الذى حوكم ؟

يتبع











Thursday, October 25, 2012

تلك اللحمة



سيكون غدا عيد الأضحى، كنا نفرح كثيرا بحضوره ، تلك اللمة , والخروف , والأفطار المتأخر , وذلك الخروف احببته وكرهته , زمان لم يكن بامكاننا ان نحصل على عيدية فى هذا العيد, لان الخروف غال جدا, ولايمكنك ان تحصل على كل شىء فى آن , مع ذلك كنت دائما أتمنى لو أنى ركبته!، مشكلتي كانت أنى لم اجروء أبدا على الاقتراب منه، كنت أخاف منه كثيرا، يرعبني ثقاوءه، كنت فقط أقف بعيدا عنه،  حريصا أكثر من ألكل على إن يكون رباطه محكما


الخط الوهمي الذي ارسمه في خيالي كان دائما يحجزه عنى،و كان يجب أن يبقى هناك خلفه دائما

قال صوت لم اعرف من اين يأت :-

سيضحكون كثيرا حين يرون انفلاتات خوفك، تلك القفزات الصغيرة التي تند عنك كلما سمعت صوته، سيظنون أنك خائف فقط ، لن يعرف احد غيرك أنك كنت حزينا أيضا، مرتعبا من المصير الذي ينتظره، مقتنعا انه ينتظر الفرصة للهروب
منشغلا بالبحث فى المآلات وماقد يحدث لو انه استطاع ان يهرب حقا!
سيكون غدا عيد الأضحى، سيكون الخروف حاضرا الليلة و سأتمنى أن اركبه، وساكتفى بنظرات عينيه وسأرسم ذلك الخط الوهمي الذي اختبئ وراءه وخوفي

سنذهب الى صلاة العيد مبكرين ، عندما نعود سيحضر الجزار سكينا كبيرا ،سيمسك شحص ما بيدي المرتجفة وياخذنى إلي هناك، سيقترب بى كثيرا من ذلك الخط ا لوهمي في عقلي، سيمسك بالخروف، وسيبدأ بذكر كلمات هامسة قبل ان يشرع فى الذبح

ربما سيرعبنى منظر الخروف الملقى أمام أبى، لم اعد متأكدا الآن , فى النهاية لن يأبه أحد لتوسلاتي، كان ألكل مصرا على ذبح الخروف المسكين، بكيت كثيرا، دائما وفى كل عام ,وادعيت أنى فقط أريد أن اركبه قبل أن يموت

سخبرنى ابى , كما فعل دائما ( أن الخروف لا يمانع في قتله، أن الخروف يجب أن يموت ليستجيب لحكمة الله في خلقه)

ساعرف لاحقا( وحدى) أن سنة الحياة تقتضى أن نقدم بعض الاضحيات لنستمر، فى مسيرنا الابدى تلقاء المطلق قد نضطر الى فعل الكثير لننجو..., مايتوجب علينا ان نتخلى عنه, ,,,,شئوننا الصغيرة , ......ماقد يحدد وجودنا ...., تلك الخيول التى ندوس عليها , لحظة صدق  لا علاقة لها بجلافة الصراحة وهى تضل  , قصائدنا التى لم نكتبها بعد ,

ولم يقنعني منطق أن الخروف كان مؤمنا... لكن الخروف مات....، أتذكر الآن نظرته المتحدية، كان يمضى إلى المحرقة كشهيد اسطورى، لم يحاول أن يهرب أبدا كما ظننت، حدجنى فقط بنظرة مودعة، نظرة بقيت في داخلي، لم يمنعها ذلك الخط الذي رسمته بيننا في اعماقى

أتذكر وجهه رغم ذاكرتي التي تصارع الفناء،، وهواجس يركضن أمام عيني، أتذكره، ولحم كثير على المائدة، تلك اللحمه الشهية تحولت في يدي إلى وجه يربض خلف خطى الوهمي، عينان حيتان تستنجدان بى، وقتها ضحك أبى كثيرا من انفلاتات خوفي

حين هدأت،..... الآن وقد هدئت ...اجد طعم السلطة في حلقي لابأس به ، خط الدم الذي كان ينز من بين شفاه الحياة يصبح باهتا مع الوقت ،تماما مثل كل الخطوط التى رسمناها يوما فى دواخلنا

فى النهاية سيكون ذلك الخروف موجودا طوال الوقت , ربما هو قابع خلف خط ما, مختبئا خلف حرب من حروبنا ,او كابوس من كوابيسنا ,يضحك من غباء العالم الذي يقتل الخراف ، بينما تقتله هى بالكلسترول






Tuesday, October 2, 2012

الرجل القبرصي للطيب صالح



الراحل الطيب صالح رحمه الله
نيقوسيا في شهر يوليو 
كما لو أن الخرطوم قامت مقام دمشق. الشوارع كما خططها الإنجليز، والصحراء – 
صحراء الخرطوم. ولكن ذلك الصراع بين ريح الصبا وريح الدبور كما أذكره في دمشق وهي إنجليزية من رأسها حتى أخمص قدميها بالرغم من كل تلك الدماء صدمت لأنني توقعت بلداً ذا طابع هليني لكن الرجل لم يهملني ريثما أوصل الفكرة إلى نهايتها. جاء وجلس جانب على حافة حوض السباحة التفت لفتة خفيفة فأحضروا له فنجان قهوة فوراً اتجه نحوى كأننا كنا على موعد.
وقال: 
سائح ؟
قلت: نعم
أحدث صوتاً لم أفهم مغزاه كأنه يقول أن مثلي لا يستحق أن يكون سائحاً في نيقوسيا، أو أن نيقوسيا لا تستحق أن يكون مثلي سائحاً فيها.
انصرفت عنه بالتمعن في امرأة وجهها مثل ملائكة روفائيل، وجسدها مثل نساء قوقان. هل هي الزوجة أم المرأة الأخرى؟ وقررت بسرعة أن الزوجة هي المرأة الأخرى لأن الرجل منصرف بكليته إلى المرأة السماوية الوجه، الأرضية الجسد. مرة أخرى قطع علي صاحبي القبرصي حبل تفكيري:
- من أين؟
- من السودان؟
- ماذا تعمل؟
- في الحكومة؟
أيضاً ذلك الصوت الغريب، لكن مغزاه كان واضحاً لا مراء فه هذه المرة، يعني، أنني، والسودان، والحكومة، ماذا أقول؟ ابتسمت لأن الحكومات صدرها واسع على أي حال، وأنا في الواقع لا أعمل في الحكومة.
- قال بلا مناسبة ، بإنجليزية حسنة:
- عندي مصنع.
- صحيح؟
- لصنع أزياء النساء.
- شئ جميل.
- كونت ثروة كبيرة اشتغلت مثل العبد . عملت ثروة. الآن لا أعمل أقضي وقتي كله في الفراش.
- تنام؟
- أنام ؟ أنت تمزح. ماذا يفعل الرجل في الفراش ؟ يلهو. طالع نازل. واحدة تلو الأخرى. طول اليوم.
- ألا تتعب؟
- أنت تمزح. انظر إلى كم تظن سني؟
- أحياناً خمسون، وسبعون أحياناً، لكنني لم أشأ أن أساعده قلت له:
- سبعون 
لم يؤلمه ذلك كما قدرت، ولكنه ضحك ضحكة مجلجلة وقال:
- خمسة وسبعون في الواقع، ولكن ما من أحد يعطينى أكثر من خمسين، قل الحق.
- خمسون إذا شئت.
- لماذا؟
- تتريض.
- نعم، في الفراش، أطلع أنزل بيض وسود وحمر وصفر. كل الألوان. أوروبيات وزنجيات وهنود وعرب ويهود مسلمون ونصارى وبوذيون جميع الأديان.
- أنت رجل متحرر.
- نعم في الفراش..
- وفي الخارج؟
- أكره اليهود.
- لماذا تكره اليهود؟
- هكذا، لوجه الله . ثم إنهم يلعبون بحذق !
- ماذا؟
- لعبة الموت. مارسوها منذ قرون.
- لماذا يغضبك هذا؟
- لأنني.. لأنني.. لا يهم.
- ألا يغلبون؟
- كلهم ستسلمون في نهاية الأمر، بكت ، في انتظار قودو.
- ونساؤهم؟
- ليس أحسن منهن في الفراش.. كلما ازدادت كراهيتك لهم ازدادت متعتك مع نسائهم انهم شعبي المختار.
- وزنوج أمريكا ؟
- لم تصل علاقتي بهم إلى درجة الكراهية. يجب أن أنتبه لهم أكثر.
- والعرب؟
- يثيرون الضحك أو الرثاء ، ويستسلمون بسهولة، في هذه الأيام على الأقل اللعب معهم ليس ممتعاً لأنه من طرف واحد..
فكرت، لو أنهم قبلوا بقبرص، لو أن بلفور وعدهم إياها.
ضحك الرجل القبرصي ضحكته المجلجلة وقال:
"المرأة تطيل العمر – يجب أن يبدو الرجل أصغر من سنه بعشرين سنة على الأقل، هذه هي الشطارة".
- هل تخدع الموت ؟
- ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك ، كما تجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال. ثم يوصلك بأدب إلى الباب يفتح الباب ويشير إليك أن تخرج بعد ذلك لا تعلم.
كأن غيمة رمادية ظللت برهة فوق المكان، لكنني في تلك اللحظة لم أكن أعلم أن القداح تضرب وأن الرجل القبرصي يلعب معي لعبة خطرة.
اتسعت موجة الضحك فشملتني كانت عائلة عذبة أنست لها منذ جلست، الأب طيب الوجه، والأم صوتها الإنجليزي مثل لحن إليزابيثي من أوتار قيثارة عريقة أربع بنات كبراهن لا تزيد عن الثانية عشرة. كن يدخلن حوض للسباحة ويخرجن ويضحكن، ويعابثن أبويهن ، ويضحكن وكانوا يبتسمون لي، ويوسعون دائرة سعادتهن حتى شملتني. وجاءت لحظة رأيت على وجه الأب أنه يوشك أن يدعوني أن أنضم إلى مجلسهم، في تلك اللحظة دهمني الرجل القبرصي قامت البنت الكبرى وخطت برشاقة نحو حوض السباحة قال الرجل للقبرصي والبنت توقفت فجأة كأن قوة غامضة أوقفتها قال:
- هذه أدفع فيها مائة جنيه إسترليني.
قلت له مذعوراً:
- "لماذا"؟
أشار الرجل القبرصي بذراعه إشارة بشعة.
في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها، سقطت على الحجر وسال الدم من جبهتها هبت العائلة الطيبة مثل طيور مذعورة وأحاطوا بالبنت فوراً قمت من جنب الرجل وأنا أشعر نحوه بكراهية طاغية، وجلست على مائدة بعيداً عنه.
تذكرت بنات وأمهن في بيروت وغضبت، ورأيت أفراد العائلة الجميلة ينصرفون مبتئسين، البنات يتشبثن بالأم والأم تتحامل على الأب، فغضبت أكثر ثم سكت وسكتت الأشياء حولي . وانحسرت الضوضاء وجاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له:
"صحح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟"
قال:
"من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".
- لكنك لا تصلي؟
- أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تسوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه. أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أ،زل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".
يوماً ما سأسأل الطاهر ود الرواسي، عن قصة زواجه بفاطمة بنت جبر الدار، إحدى أخوات محبوب الأربعة. هل أسأله الآن؟ لم يكن ولاؤه لنفسه، بل كان لمحبوب، وكان يضحك على نفسه وعلى الدنيا. هل صبح بطلاً ؟ واضح أنه إذا جد الجد فسوف يفدي محبوب بنفسه. هل أسأله الآن؟ لكنه قال، وحده جملة صغيرة مصنوعة من نسيج حياته كلها:
- "فاطمة بنت جبر الدار هالله. الله".
- ومحبوب؟
ضحك الطاهر ود الرواسي ضحكة لها طعم تلك الأيام، وذلك مدى حبه لمحبوب، حتى ذكر اسمه يملؤه سعادة، كأن وجود محبوب على وجه الأرض يجعلها أقل عدواناً، وأكثر خيراً في نظر الطاهر ود الرواسي ضحك وقال وهو يضحك:
"محبوب حاجة تانية محبوب معمول من طينة غير"
ثم سكت وكان واضحاً لي أنه لا يريد وقتها أن يقول أكثر في ذلك الموضوع بالذات بعد مدة سألته:
"عبد الحفيظ قال إنك ما دخلت الجامع في حياتك أبداً صحيح؟
- مرة واحدة بس دخلت الجامع.
- ليش ؟ وعلشان إيش ؟
- مرة واحدة فقط كان شتاء من الشتوات طوبة أو أمشير والله أعلم.
قلت له:
- كان في أمشير بعد ما دفنتم مريم باللّيل.
- صحيح عرفت كيف؟
- كنت معاكم موجود.
- وين؟ ما شفتك داك الصباح، مع أن البلد اجتمعت كلها يومداك في الجامع؟
- كنت عند الشباك أظهر وأبين لحد ما قلتم ولا الضالين آمين.
- سبحان الله الرجل الغريب محيميد المسكن كان صرخ ويقول: الرجل الكان هنا راح وين؟"
- وبعدين؟
فجأة طائر الأحلام طار. اختفى ود الرواسي، واختفت "ود حامد" بكل تلك الاحتمالات وحيث كان يجلس رأيت الرجل القبرصي، سمعت صوته فانقبض قلبي سمعت الصراخ والضوضاء وارتطام الماء بجوانب المسبح، وتشكلت الأشباح على هيئة نساء عاريات ورجال عراة وأطفال يتقافزون ويتصايحون وكان الصوت يقول:
"أدفع في هذه خمسين جنيهاً استرلينياً فقط".
ضغطت عيني لأصحو أكثر ونظرت إلى السلعة المعروضة في السوق كانت تلك المرأة كانت تشرب عصير برتقال في اللحظة التي قال فيها الرجل القبرصي ما قال شرقت واختنقت وهب إليها الرجل وهبت المرأة وجاء الخدم والسعاة واجتمع الناس وحملوها مغشيا عليها وكأنما ساحر أشار بعصاه السحرية، فإذا بالناس، كما خيل لي قد اختفوا فجأة والظلام أيضا كأنه كان على مقربة ينتظر إشارة من أحد، نزل دفعة واحدة أنا والرجل القبرصي وحدنا والضوء يلعب ألاعيبه على صفحة الماء قال لي بين النور والظلام:-
"بنتان أمريكيتان وصلتا هذا الصباح من نيويورك جميلتان جداً وثريتان جداً واحدة في الثامنة عشرة وهي لي والثانية في الخامسة والعشرين وهي لك. أختان تملكان فيلا في كابرينيا عندي سيارة لن تكلفك المغامرة شيئاً اسمع كلامي لونك سيعجبهن جداً".
كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح وعلى سطح الماء وكان صوت الرجل القبرصي كأنما يزود جيوش الظلام بالسلاح لذلك أردت أن أقول له فليكن، ولكن صوتاً آخر خرج من حلقي دون إرادتي قلت له وأنا أتابع الحرب الدائرة على صفحة الماء:
"لا، أشكرك لم أحضر إلى نيقوسيا بحثاً عن هذا جئت لأتحدث إلى صديقي الطاهر ود الرواسي في هدوء لأنه رفض أن يزورني في لندن، وأعياني لقاؤه في بيروت".
ثم التفت غليه ويا هول ما رأيت أنا واهم أم حالم أم مجنون؟ جرت، جرت لائذاً بالجمع في مشرب الفندق طلبت شراباً ما وشربته لا أذكر مذاقه وشربته لا أعلم ماذا كان.. هدأ روعي قليلاً ولكن الرجل القبرصي جاء وجلس معي كان يقفز على عكازين طلب كأساً من الو سكي دبل قال انه فقد ساقه اليمني في الحرب أية حرب؟ حرب من الحروب ماذا يهم أية حرب؟ تهشمت ساقه الخشبية هذا الصباح صعد جبلاً ينتظر ساقاً جديدة من لندن. صوته إنجليزي أحياناً وتشبه لكنة ألمانية أحياناً ويبدو لي فرنسياً أحياناً، ويستعمل كلمات أمريكية:
- هل أنت...؟
- لا لست أنا بعض الناس يحسبوني إيطالياً وبعضهم يحسبونني روسياً، وبعضهم ألمانياً.. أسبانياً.. ومرة سألني سائح أمريكي هل أنا من بسوتولاند تصور ماذا يهم من أين أنا؟ وأنت يا صاحب السعادة؟
- لماذا تقول لي يا صاحب السعادة؟
- لأنك إنسان مهم جداً.
- ما هي أهميتي؟
- إنك موجود اليوم ولن تكون موجوداً غداً.. ولن تتكرر.
- هذا يحدث لكل إنسان ما أهمية ذلك؟
- ليس كل إنسان مدركاً أنت يا صاحب السعادة تدرك موضعك في الزمان والمكان.
- لا أعتقد ذلك.
شرب الكأس دفعة واحدة، ووقف على ساقين سليمتين إلا إذا كنت واهماً أو حالماً أو مجنوناً وكان كأنه الرجل القبرصي انحنى بأدب متصنع جداً وكان وجهه كما رأيته على حافة البركة يجعلك تحس أن الحياة لا قيمة لها وقال:
"لا أقول وداعاً ولكن إلى اللقاء يا صاحب السعادة".
كانت الساعة العاشرة حين دخلت فراشي تحايلت على النوم بوسائل شتى وكنت متعباً سبحت طول اليوم حاولت التحدث إلى الطاهر ود الرواسي.. سألته عن قصة زواجه من فاطمة بنت جبر الدار سألته عن حضوره صلاة الفجر في ذلك اليوم المشهود سألته عن ذلك الغناء الذي كان يعقد ما بين الضفتين بخيوط من حرير، بينما كان محيميد المسكين يضرب في أليم ملاحقاً طيف مريم لكنه لم يجب . لم تسعفني الموسيقى ولم تسعفني القراءة وكان يمكن أن أخرج أذهب على ملهى أو أجلس في مشرب الفندق لا حيلة لي ثم بدأ الألم خدر خفيف في أطراف أصابع القدمين، أخذ يزحف تدريجياً إلى أعلى حتى كأن مخالب رهيبة تنهش البطن والصدر والظهر والرأس وكأن نيران الجحيم اشتعلت مرة واحدة كنت أغيب عن الوعي ثم أفيق، ثم أدخل في دوامة رهيبة من الآلام والنيران والوجه المرغب يتراءي لي بين الغيبوبة وشبه الوعي، ينط من مقعد إلى مقعد يختفي ويبين في أنحاء الغرفة أصوات لا أفهمها تجئ من المجهول ووجوه لا أعرفها مكشرة قاتمة ولم تكن لي حيلة كنت واعياً بطريقة ما ولكن لم تكن لي حلة أن ارفع سماعة التلفون أطلب طيباً أو أ،زل إلى الاستقبال في الفندق أو أصرخ مستغيثاً كانت حرباً شرسة صامتة بيني وبين أقدار مجهولة ولابد أنني انتصرت نوعا من الانتصار لأنني صحوت على دقات الساعة الرابعة صباحاً. والفندق والمدينة صامتين اختفت الآلام إلا من إحساس بالإعياء وإحساس بيأس شامل كأن الدنيا بخيرها وشرها لا تساوي جناح بعوضة بعد ذلك نمت في التاسعة صباحا حقت الطائرة الذاهبة بي إلى بيروت فوق نيقوسيا فبدت لي مثل مقبرة قديمة.
في مساء اليوم التالي في بيروت دق جرس الباب وإذا امرأة متشحة بالسواد تحمل طفلا كانت تبكي وأول جملة قالتها:
"أنا فلسطينية ابنتي ماتت"
وقفت برهة أنظر إليها لا أدرى ماذا أقول ولكنها دخلت وجلست وقالت:
"هل تتركني أرتاح وأرضع الطفل ؟"
- بينما هي تحكي لي قصتها دق جرس الباب أخذت البرقية وفتحتها وكانت المرأة الفلسطينية تحكي لي أنباء الفاجعة الكبرى وأنا مشغول عنها بفجيعتي قطعت البحار والقفار وكنت أريد أن أعلم قبل أي شئ متى مات وكيف مات . اخبروني انه عمل في الحديثة في حقله كعادته في الصباح وعمل الأشياء التي يعملها عادة في يومه لم يكن يشكو من شئ دخل دور أقربائه وجالس مع أصدقائه هنا وهنا أحضر بعض التمر في نصف نضجه وشرب به القهوة ورد اسمي في حديثه عدة مرات وكان ينتظر قدومي بفارغ الصبر لأنني كتبت له أنني قادم . تعشى خفيفاً كعادته وصلى صلاة العشاء ثم جاءته نذر الموت نحو الساعة العاشرة قبيل صلاة الفجر فاضت روحه وحين كانت الطائرة تحملني من نقوسيا إلى بيروت كانوا قد فرغوا لتوهم من دفنه.
وقفت على قبره وقت الضحى وكان الرجل القبرصي جالساً على طرف القبر في زيه الرسمي يستمع إلي وأنا أدعو وأبتهل. قال لي بصوت كأنه ينبع من الأرض والسماء ويحيط بي من النواحي كافة:
"لن تراني على هذه الهيئة إلا آخر لحظة حين افتح لك الباب وانحني لك بأدب وأقول لك "تفضل يا صاحب السعادة" سوف تراني في أزياء أخرى مختلفة قد تلقاني على هيئة فتاة جميلة تجيئك وتقول لك إنها معجبة بأفكارك وآرائك وتحب أن تعمل معك مقابلة لصحيفة أو مجلة أو على هيئة رئيس أو حاكم يعرض عليك وظيفة يخفق لها قلبك أو على هيئة لعبة من ألاعيب الحياة تعطيك مالا كثيراً لم تبذل فيه جهداً وربما على هيأة بنت تصغرك بعشرين عاماً تتشهاها، تقول لك نذهب إلى كوخ منعزل في الجبل احترس لن يكون أبوك موجوداً في المرة القادمة ليفديك بروحه احترس الأجل مسمى ولكننا نأخذ بعين الاعتبار المَهرة في اللعب. 
احترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل".
ولما تيقنت أنه كان ذلك اليوم في نيقوسيا يفاضل بيني وبين أبي، وأنه اختار أفضلنا بكيت الدموع التي ظلت حبيسة طول ذلك العهد بكيت حتى نسيت الموت والحياة والرجل القبرصي . 


-- انتهت --