Sunday, April 26, 2015

من قضايا الاسلام

أخطاء في فهم المنهج
بقلم محمد بن عبد الله الدويش
 ______________________
      يكثر اليوم الحديث عن المنهج وطرح التساؤلات وإثارة النقاش حوله ، ويكثر  
استخدام هذا المصطلح في الخطاب الدعوي ، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية .
      والحديث عن المنهج مظهر من مظاهر النضج في التفكير وتجاوز الوقوف
عند المسائل الفرعية وتكرارها والجدل فيها على حساب الأصول .
      لكن .. ما طبيعة هذا الحديث ؟ .
      أهو حشد للطاقات والجهود داخل إطار الطائفة الناجية لاستكشاف معالم   المنهج ، وتحديد الثوابت الدعوية في مثل هذا العصر وظروفه ؟ أم أن الجهود   اتجهت للتشاجر والتطاحن داخل الصف الإسلامي بل داخل صف أهل السنة ؟ !
      وما أسطره هنا لا يعدو كونه اجتهاداً فرديًّا ، ومحاولة شخصية ، آمل من
القارئ الكريم ألا يؤدي به اختلافه معي في قضية أو جزئية إلى رفض ما يوافقني
عليه ، وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد ، إلا المعصوم .
المنهج في اللغة :
      قال ابن فارس : (النون والهاء والجيم أصلان متباينان : الأول : النهج ،   الطريق .. ونهج الأمر : أوضحه .
      والآخر : الانقطاع .. وأتانا فلان ينهج ، إذا أتى مبهوراً مقطوع النّفَس) [1]  .
      حين نعود إلى لسان العرب نستطيع أن نستنبط من معاني المنهج ومشتقاته :
      1- الوضوح : (طريق نهج : بيّن واضح ، وهو النهج .
      والمنهاج : الطريق الواضح . واستنهج الطريق : صار نَهْجاً .
      2- سلوك الطريق : نهجت الطريق : سلكته ، والنهج : الطريق المستقيم .
      3- الانقطاع : وهو ليس من هذا الباب ، بل من الأصل الثاني . [2]   
المنهج في الكتاب والسنة :
      ورد المنهج في القرآن في قوله (تعالى) : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً   
[المائدة : 48] . وفي السنة النبوية : جاء استخدام هذا المصطلح في حديث : (تكون
النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [3]  .
أخطاء في المنهج :
أولاً : اعتبار أقوال الرجال مقياساً للمنهج :
      مما لاجدال فيه ، ولا يحتاج لاستدلال : أن لأقوال أهل العلم قيمة ومكانة ،
ولا أدل على ذلك من أنك لا تقرأ لأحد من المعتبرين في مسألة من المسائل إلا
وتراه يثني على اختياره قولاً من الأقوال ، في الإشارة إلى من قال بهذا القول من
أهل العلم . لكن هذا شيء ، واعتبار أقوالهم وآرائهم حجة شرعية ومصدراً للتلقي
شيء آخر .
      وفي ميدان التقرير النظري : فلن تجد أحداً من أهل السنة يعتقد العصمة
لرجل من الرجال ، أو يرى أن قوله حجة ملزمة للأمة كلها ، لكنك حين تنتقل إلى
ميدان العمل والتطبيق : فسترى الكثير ممن يتحدث عن قضايا كبرى تتعلق بالمنهج
ينطلق من رأي فلان وفلان من الناس ، ويظهر أثر ذلك في جوانب عدة ، منها :
      1- استفتاء بعض المهتمين أهل العلم في كل ما يجدّ ويحدث ، واعتماد هذه
الفتوى أو الرأي حجة دون اعتبار الدليل الشرعي .
      2- في مجال تقويم الأعمال الدعوية والجهود والبرامج ، أو تقويم بعض
الدعاة : قد يُكتفى بسؤال فلان أو فلان من الناس ، واعتبار رأيه حجة قاطعة .
      3- الحكم بالانحراف عن المنهج على فرد أو داعية ؛ بحجة أنه خالف ما
قرره العالم الفلاني أو الجماعة الفلانية ، أو الهيئة العلمية الفلانية .
      ومع تأكيدنا لقيمة أقوال أهل العلم وضرورة استفتائهم ، إلا أن هذا شيء ،
واعتبار أقوال بعضهم حجة على الأمة شيء آخر .
      قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (والمقصود أن من نصب إماماً فأوجب طاعته
مطلقاً ، اعتقاداً أو حالاً ، فقد ضل في ذلك ، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية ...
وكذلك : من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا
استثناء ... وكذلك : من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم فيما قاله وأمر به ونهى
عنه مطلقاً ، كالأئمة الأربعة ، وكذلك : من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة في
كل ما يأمرون به وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء) [4]  .
      ومن يقرأ في كتب أهل العلم السابقين واللاحقين فسيجدهم قد تواصوا بالعيب
على التقليد والنعي على أصحابه وذمهم .
      وقد يعتذر بعضهم بأنه يسوغ له التقليد ، وأن غيره يدرك ما لا يدرك ، وأنه
لم يصل إلى مرتبة معرفة الأدلة ومناقشتها ، فقد يسوغ له التقليد في ذات نفسه ،
لكن .. لم يجعل ذلك معياراً يحكم به على الآخرين ، فيضللهم أو يخرجهم عن دائرة
المنهج محتجًّا بأقوال الرجال ؟ ، وحين يناقش بالدليل الشرعي يقول : إنه ليس
صاحب علم ، وفرضه أن يقلد .
ثانياً : اعتبار واقع المجمتع معياراً للمنهج :
       تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها أو بعدها عن الهدي الشرعي ،       ومدى سلامتها من البدع والمحدثات ، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة  
وأقل ابتداعاً من غيره ، فيشعر أهله بالتوجس والريبة مما يفد إليهم من سائر
المجتمعات ، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة .
      لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي وافد على هذا المجتمع فذلك
دليل انحرافه ، فيرفض هؤلاء الكثير مما لم يألفوه بحجة أنه وافد ، أو لم يكن
يعرف من قبل ، ولو قالوا : إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ   
لكانوا أكثر واقعية مع أنفسهم .
      نعم ، قد يكون هذا الوافد مخالفاً فينبغي أن يرفض ؛ لأنه مخالف للشرع لا
لأنه وافد ، وقد يكون موافقاً للشرع ، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين أو طبقة
معينة من الناس مهما علا قدرهم ليس مبرراً لرفضه .
ثالثاً : الخلط في المصطلحات الشرعية :
       هناك مصطلحات شرعية رتب الشرع عليها المدح والذم ، والوجوب والتحريم  
وبعضها مصطلحات عامة تحتاج للفقه في تنزيلها على الوقائع والمواقف ، وقد يُتكأ
على مثل هذه المصطلحات ، وينطلق منها ، ويستثمر أثرها على الناس في تقرير
ما يريده باسم المنهج ، ومن ذلك :
      1- المصلحة : فالمصالح والمفاسد مصطلح شرعي يكثر الحديث عنه في
كتب الأصول والمقاصد ، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتبار أن الدين كله قائم
على مراعاة المصالح والمفاسد ، لكن بعض الدعاة قد يقف مواقف ويعمل أعمالاً
دعوية تخالف المنهج الشرعي ، وحين يطالَب بالحجة والبرهان لا يجد لنفسه مستنداً
إلا أن المصلحة تقتضي هذا الأمر ، وينسى هؤلاء أن المصلحة وصف شرعي لا
بد من تنزيله على مناطه الشرعي فعلاً ، وليست لباساً يُلبسه من شاء على ما راق
له من عمل .
      وأحياناً قد يوصف الواجب الشرعي كإنكار المنكر بأنه يترتب عليه مفاسد ،
وينسى هؤلاء أن المفاسد المعتبرة هي ما اعتبرها الشرع . إن الأصل الشرعي
المستقر : أنه يجب إنكار المنكر ، إلا إذا ترتب على إنكاره مفسدة ؛ فالقاعدة
والأصل : وجوب الإنكار ، وترتب المفسدة استثناء ، فتحول الاستثناء عند بعض
هؤلاء إلى قاعدة .
      2- الفتنة : والفتنة جاءت نصوص الشرع بذمها وعيب أهلها والداعين إليها
والساعين لإثارتها ، لكن قد ينطلق اليوم بعض الذين يسعون لتشويه سير الدعاة إلى
الله (عز وجل) والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، من هذا المعنى المستقر
وهذا الرفض لدى جمهور المسلمين للفتن ؛ ينطلقون من ذلك ليحَوِّلوا جهد هؤلاء
وإبلائهم إلى جرم وضلال ، وفي ظل هذا الزخم الهائل من التهم بإثارة الفتنة للدعاة
إلى الله (عز وجل) نسي كثير من المسلمين أو جهلوا المعاني الشرعية للفتنة .
      فالصد عن سبيل الله ، والكفر به ، والمسجد الحرام : جرم عظيم ، لا يوازيه
القتال في الشهر الحرام ؛ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ [البقرة : 217] . وإيذاء المؤمنين لصدهم عن دينهم فتنة ؛
إنَّ الَذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الحَرِيقِ [البروج : 10] . والكفر والشرك بالله فتنة تستوجب الجهاد والقتال
وإراقة الدماء لإزالتها ؛ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ          [البقرة : 193] .
      3- البدعة : وهي مصطلح أطلق في الشرع على كل ما أحدث في دين الله ،
واقترن هذا المصطلح بالذم في نصوص الكتاب والسنة ، بل كان لا يدع التحذير
منه في خطبة أو مناسبة ( ... وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة) ، والخطأ هنا
يقع في تنزيل هذا الوصف الشرعي على عمل معين أو شخص معين ، فبعض أهل
البدع يقصر هذا الوصف على نوع واحد من البدع ، وهي البدع الحقيقية ، ويخرج
البدع الإضافية من وصف البدعة . وبعض آخر يغلو فيحكم بالابتداع على من لا
يستحقه ، ويصف بذلك كل من أخطأ في مسألة ولو كانت من المسائل الخفية ، بل
وربما كانت من مسائل الاجتهاد .
رابعاً : الانطلاق من ردود الفعل :
      تترك الأحداث آثارها وتهز النفوس هزًّا قد يفقدها بعض التوازن ، فتتجه إلى
طرف آخر ، ومن هنا : تساهم ردود الفعل في صرف بعض الناس عن موقف
الاعتدال :
      أ- فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص فعالجه آخر بتطرف
مقابل ، ولعل إهمال شأن الحكم بغير ما أنزل الله وتهميش قضية الحاكمية ردة فعل
تجاه طائفة اختزلت مشكلات المسلمين كلها في هذه المشكلة .
      ب- وقد تكون ردة الفعل مدرسة في مقابل مدرسة أخرى ، فمدرسة أهل
الظاهر ما هي إلا ردة فعل لمدرسة أهل الرأي التي تطرفت في الأخذ بالقياس
وإهمال النص .
      ج- وقد تكون من الإنسان نفسه تجاه خطأ اكتشفه في نفسه ، أو تقصير في
جانب من الجوانب ، فيتحول إلى الطرف المقابل ، ويعالج الأمر بالتطرف بعيداً
عن الاعتدال والموضوعية .
      د- وقد تكون تجاه حدث أو أزمة مرت بالأمة وتركت آثارها وخلّفت ظلالها
الثقيلة على النفوس ، (إن الناموس العام لردود الأفعال هو عدم الاتزان وعدم
الموضوعية ، وإن الكسالى والعاجزين والفوضويين سيظلون باستمرار على هامش
الفعل ، وفي بؤرة ردود الأفعال تتقاذفهم الأمواج العاتية) [5]  .
خامساً : اعتبار النتائج القريبة مقياساً لفشل ونجاح المنهج :
       لا شك أن كل عامل يتطلع إلى نجاح عمله ، وإلى تحقيق أهدافه ومقاصده ،     والدعاة إلى الله (عز وجل) شأنهم شأن سائر العاملين يسعون لتحقيق أهدافهم ، من :
نشر الخير في المجتمعات ، وكف الفساد والشر عنها ، وقد يفشل بعض الدعاة في
تحقيق الأهداف التي يتطلعون إليها .
      والفشل تحكمه عوامل عدة ، منها : خطأ المنهج ، لكن قد يكون ناشئاً عن
تقصير في الأخذ بالأسباب ، أو الذنوب والتقصير في الطاعة ، أو عدم تمام صفاء
النية ، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك ، لكنه في الجملة سليم المنهج ، فلا
يسوغ أن نرفض طريقته ونحكم بفشلها ؛ فالفشل هنا له هو لا للمنهج ، لقد هزم
المسلمون في غزوة أحد ، وفروا يوم حنين ، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي
المسلمين ، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي بالخلل في منهجهم إذ ذاك ؟
إذن : يجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب التي يتم علاجها بتصفية
النفوس وتزكيتها و الخلل في المنهج ، الذي يعني المراجعة له .
      وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لرفعة درجة أولياء الله ؛ فقد أخبر الله عن أهل
الكتاب أنهم يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَذِينَ يَاًمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ   
[آل عمران : 21] و أثنى على أصحاب الأخدود الذين حرّقوا جميعاً في النار في
مجزرة جماعية ، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسؤول عنها ، ولم تكن تلك الدماء ثمناً
لتهوره . وحين جاء النبي بدعوته وجهر بها أوذي نفر من المسلمين ، بل منهم من
قتل ، وأُخرجوا من ديارهم ، أكانت دعوته هي المسؤولة عن هذا الذي أصابهم ؟ !
أم أن ذلك كان يعني خللاً في المنهج ؟ ! (معاذ الله) .
      إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية بحجة أنها فشلت في
تحقيق أهدافهما ، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج ، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له
. أما إذا عتبرنا النتائج بمقياس آخر غير قياس اللحظة الحاضرة ، فسنرى أن
الكثير من الجهود الدعوية التي يصمها بعضهم بالفشل قد حققت النجاح ، ولو لم
يكن في ذلك إلا القيام بالواجب الشرعي .
سادساً : الخلط في تحرير منهج السلف :
      لقد كان من منجزات الدعوة السلفية المعاصرة أن اتفق الرأي العام الإسلامي
على قبول منهج السلف في الجملة ، وصار من دلائل ذلك : أن أحداً لا يمكن أن
يجرؤ على التصريح بأنه يرفض منهج السلف ، وصار الوصف بالخروج عن منهج
السلف تهمة لدى الجميع ، يسعى إلى نفيها ولو كان متصفاً بها في الحقيقة .
      وهي قضية إيجابية مهمة ، لكن كثر الحديث الآن عن منهج السلف ووصف
عمل من الأعمال بأنه على منهج السلف ووصف آخر بأنه على خلاف منهج السلف ،   ولا شك أن السعي لتوضيح منهج السلف ، والسير عليه ، ودعوة الناس إليه :  
قضية لا مجال للمناقشة فيها ، بل النقاش فيها أمارة على الانحراف والزلل .
      ولكن : هل كل ما ادعي أنه منهج السلف هو منهج السلف فعلاً ؟ وهل يحق
لكل مدعٍ أن يتهم فلاناً من الناس بأنه على خلاف منهج السلف ؟
      إن هناك أخطاءً ترتكب في تحديد منهج السلف ، ومنها على سبيل المثال :
      1- إهمال اعتبار تغير الزمان والمكان :
      هناك أمور مستقرة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، وهناك أمور تختلف
باختلافهما ، فقد يقول أحد السلف قولاً ينطبق على عصره ووقته ، لكنه لو عاش
إلى عصرنا لربما تغير اجتهاده .
      إن اعتبار العصر وظروفه لا يعني بحال نسف آراء السلف وأقوالهم ، لكن
البعد الزماني المطلق ليس إلا لنصوص الوحي ، بل حتى أقوالهم المرتبطة بزمن
معين أو مكان معين يجب أن نستفيد منها ونُعنى بها ، مراعين اختلاف الزمان
والمكان .
      2- تعميم اجتهادات آحاد السلف :
      قد يقرر أحد رأياً في مسألة من المسائل ، ويثني على تقريره بسرد بعض
أقوال من قال بذلك من السلف ؛ لينطلق من ذلك إلى أن هذا هو منهج السلف ، وقد
يجاريه القارئ في هذه النتيجة لعدم استحضاره لسائر الأقوال والنصوص ، ويغيب
عن القارئ أن الكاتب قد تعمد اختيار الأقوال التي توافق ما يذهب إليه ، وتجاوَزَ ما
تعارضه ، والأمانة العلمية تقتضي بلا شك نقل جميع النصوص ، أو بالأصح عدم
الاقتصار على جانب واحد منها .
      فلا بد من التفريق بين منهج السلف وآراء آحاد السلف .
      3- دعوى اعتبار روح ما عليه السلف :
      وهو منهج يسلكه أولئك المتميعون الذين يسيرون وفق ما يحلو لهم ، وحين
يناقَشون في ذلك ويطالَبون بسلوك منهج السلف : يحتجون بأن المقصود : اتباع
روح ما عليه السلف ، فالأقوال والآراء المبتدعة ، والمناهج المنحرفة ، والتسيب
الفقهي والعلمي عند هؤلاء : لا يمكن أن يترتب عليه مجاوزة منهج السلف ، ما دمنا
متمسكين بروح ما عليه السلف ! .
      إذن : فقضية اتباع منهج السلف قضية يجب أن تصبح من البدهيات لدى
العاملين للإسلام ، لكن الحكم بأن هذا منهج السلف ، وأن ذاك خلاف منهج السلف
يجب أن يصدر بموضوعية وعلم ، وألا تطلق الأحكام جزافاً .
سابعاً : النظر إلى جانب واحد من النصوص :
      إن من العدل في التعامل مع النصوص الشرعية أن ينظر الباحث فيها إليها
جملة ، وأن يجمع النصوص الواردة في الباب الواحد ، وحين ينظر إلى جانب
واحد منها فقط فسيخرج بنتيجة غير شرعية .
      ففي مقابل النصوص التي تتوعد أهل الكبائر بالعقوبة والنكال : هناك    
نصوص تفتح أمامهم باب الرجاء ، وفي مقابل النصوص التي تأمر بطاعة الولاة
والصبر على جورهم : هناك نصوص تأمر بقول كلمة الحق والصدع بها في
وجوههم ، ولو أسخطتهم .
ثامناً : اعتبار المسائل الاجتهادية من المنهج :
      هناك مسائل مما يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف ، ولا ينبغي أن تكون مجالاً
وميداناً للإنكار والتهارج ، فضلاً عن التأثيم والتضليل ، لكنك تجد بعض الدعاة
حين يتبنى اجتهاداً في مسألة ينطلق من هذا الاجتهاد ليلزم الأمة به ، ويقرر أن هذا
مما لا يسوغ خلافه ، وأن المخالفة فيه دليل على انحراف في المنهج .
      ألسنا نرى أن بعضهم يتبنى اجتهاداً في مسألة من مسائل الوسائل الدعوية
التي اختلف فيها أهـل العلم في هذا العصر فيتبنى رأياً من هذه الآراء ، ويحشد
أقوال مؤيديه ، ويطوي صفحاً عن الآراء الأخرى في المسألة ، وهو يعلم أنها
تخالف رأيه ، وهي لعلماء يحترمهم ، فيصور للقارئ أن هذه المسألة من المعلوم من
الدين بالضرورة ، ومن ثم : فأولئك الذين يخالفونه في اجتهاده منحرفون في منهجهم ،     بعيدون عما عليه السلف ، فاقدون للورع والديانة ... ! !
      قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (وأيضاً : فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع :
أن من الخطأ في الدين : ما لا يكفّر مخالفه ، بل ولا يفسّق ، بل ولا يأثّم ، مثل
الخطأ في الفروع العملية) [6]  .
تاسعاً : الخلط بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط :  
      هناك فرق في المسائل الخلافية قد لا يتفطن له بعض المختلفين ، والغالب في
الخلاف الدائر اليوم بين أهل السنة هو من هذا الباب ، ألا وهو : الخلاف في
الأصل أو في تحقيق المناط .
      فقد يتفق الجميع على أنه لا يكفر مسلم بكبيرة من الكبائر ، ولا يكفر إلا بما
سماه الشرع كفراً ، فيجتهد أحدهم ويحكم بالكفر على معين لما ظهر له من خلال
عمل موجب للكفر عند أهل السنة ، فإن ذلك لا يجوز للآخر اتهامه بأنه يرى رأي
الخوارج وينتحله .
      بل هذا هو الشأن في الخلاف بين الأمة في سائر مسائل الفروع ، فهم يتفقون
على اتباع الدليل وسنة النبي في كل مسألة ، صغرت أم كبرت ، لكن الخلاف قد
ينشأ بينهم في تحديد ما هو مقتضى الدليل وسنة النبي ، فلا يسوغ لمن أوصله
اجتهاده أن هذا الأمر سنة أن يصم من خالفه بأنه غير حريص على تطبيق السنة ،
إذ المدار هنا : هل هذا الأمر سنة أم لا ؟ 
________________________
(1) معجم مقاييس اللغة ، ج5 ص361 .
(2) لسان العرب ، م6 ص4554 .
(3) رواه أحمد ، ج4 ص27 .
(4) الفتاوى ، ج19 ص69 70 .
(5) فصول في التفكير الموضوعي ، لعبد الكريم بكار ، ص270 .

(6) الفتاوى ، ج12 ص494 .